لُغةُ الكَلامِ المَفقٌودِ, قِراءةٌ نقديَّةٌ
في القِصَّةِ القَصيرةِ جِدَّاً,(اِحترامٌ مفقودٌ),لأَمير ناظم
د. جبَّار ماجد البهادلي / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ
نَصُّ القصَّةِ القصيرةِ جِدَّاً المُعنون بالعتبة العنوانية الرئيسة, (احترامٌ مفقودٌ) للقاصِّ العراقي أمير ناظم:(( ظَلَّ وَاقِفَاً فِي آخرِ الصُفُوفِ؛ لَكنَّهُ لَمْ يَتكلَّمْ مَعَ أَحَدٍ أبَدَاً, حَتَّى شَكَّ مَنْ هُمُ بِجانبَهِ أنَّهُ أخرَسٌ, وَقَبلَ أَنْ يَنتهِيَ العَزَاءُ نَادَاهُ صَدِيقٌ يَعرفُهُ كَي يَتَبَادَلَا الأَحادِيثَ, فَلَم يُجِبْهُ أيضَاً, اكتَفَى بِأنْ أَدَارَ وَجهَهُ بِاتِّجاهِ الخَطِيبِ فَوَضَعَ أَصبِعَهُ على فَمِهِ)).
قِراءةُ النصِّ:
القصَّة القصيرة جدَّاً, ونظيرتها الرَّديفة الأخرى (قصَّةُ الوَمضة) هذا اللَّون السردي الحداثوي الماتع والخاطف للأبصار قبل العقول في الأدب الوجيز الذي يعدُّ إشكاليةً من إشكاليات الحداثة الأدبيَّة, تعتمدُ مقوّمات نجاحه الأساسية, ويقوم بناؤه الفنِّي والجمالي بالدرجة الأولى على أُسس وعناصر القصّة القصيرة الأربعة المعروفة: (التكثيف اللُّغوي والتركيز الدقيق, والإيحاء الدلالي, والمفارقة الإدهاشية الماتعة, والخاتمة النهائية الصادمة). فضلاً عن ذلك العتبة العنوانية الرئيسة؛ كونها (المُرسلة النَّصيَّة الصُّغرى) للنصِّ القصصي الموازي الذي هو (المُرسلة النَّصيَّة الكُبرى).
وحين نُجيلُ التَّأمُّلَ الدقيق في قصِّة(اِحتِرامٌ مَفقودٌ),للكاتب أمير ناظم الدالة على رمزية عتبتها النصيَّة, والمؤدِّية لوظائفها العنوانية الأربع لجينيت:(التعيينيَّة, والوصفيَّة, والإيحائية,والإغرائيَّة), نجدُ أُسّ تلكَ العناصر والأسسَ حاضرةً في نصِّ أمير ناظم القصصي القصير جدَّاً؛ ولكنْ بتفاوتٍ نسبيٍّ تعبيريٍ ملحوظٍ يجمع في كوامنه الفنيَّة بين ثنائية( القوَّة والضعف), و(الرِّضَا وعدمِ القبول).
فالقوَّة تَكمن أسلوبياً وبنائيَّاً في لُغة الكاتب المهذَّبة الشفيفة الأثر وفي تمكُّنه من فنيَّة الاقتصاد اللُّغوي, والإيجاز الدلالي المُوحي بالمعاني الترميزية القريبة والبعيدة لوحدة الموضوع (البؤرة المركزية) للحدث. هذا من ناحيةٍ, ومن ناحيةٍ أخرى تتعلَّق بمهارة القاصِّ وقُدرته الفنيَّة في تقنية الاختزال, وبناء الحدث السردي بانسيابيةٍ مَرنةٍ, وقصديةٍ منتظمةٍ. فضلاً عن حركية تعامله العملي على إيجاد مِساحةٍ تعبيريةٍ فنيَّةٍ واضحة من غير إبداءٍ مُناورةٍ فكريةٍ جمَّةٍ لافتةِ الجهد والنَّصب.
ويستحسنَّ بذلك أنْ يكون القاصُّ مكتفياً بالاعتماد على وقعِ الكلمات المؤثِّرة وأثرِ الألفاظ ذات الشِّحنات الدلالية الفنيَّة الكبيرة التي تُثري هندسة النصِّ القصصي قوةً وتُمسكُ بمعمارية جوانبه الفنيَّة المتعدِّدة. فأميرُ ناظم في بنائه التسريدي للحدث النصَّي مبدئياً لمْ يتوانَ في توظيفه الإجرائي لعناصر التكثيف القصير, والتركيز الشديد, والإيحاء البعيد؛ وإنَّما يكمنُ جانب الضعف والاختلال والتواني والفتور السردي فنيَّاً وجمالياً في عنصري(المفارقة والخاتمة), اللَّذينِ يشكِّلان مع الخاتمة عصب السرد المحرِّك لنواة الحكاية السرديَّة التي يجد فيها المتلقِّي شعوراً بالراحة النفسيَّة والإمتاع والرضا والقبول الحَسن الذي لم يدعُ له فرصة عدم التواصل مع قراءتها وتركها جفاءً.
والملاحظ أنَّ المفارقة القصصية حاضرة وموجودة في سطور النصِّ القليلة, وظاهرة للمتلقِي بشكلٍّ لا يقبل الشكَّ؛ ولكنْ حضورها التوقُّعي الفنِّي لم يكنْ قويَّاً ومؤثِّراً,وإدهاشياً مُذهلاً لافتاً يكسر رتابة الواقع القصصي النمطي المؤطَّر, ويُحطِّمُ جُدُرَ صمت المألوف الرتيب الذي لا رواء فيه.
أمَّا الخاتمة, فعلى الرُّغم من كونها نهايةً مغايرةً لواقع الحال الجمعي, ومخالفةً لمسار المُحال الوضعي, فإنَّها هي الأخرى لم تكن بالخاتمة الوثِّابة ذات الأثر النفسي الصادم الذي يهزُّ كيان المُتلقِّي ويسيطر على لُبابِ واعية تفكيره الذهني. وذلك كونها نهايةً باردةً باهتةً تفتقرُ إلى هِزَّةِ حرارة عنصري(الإمتاع والمؤانسة) الشائقين في قوَّة شحنتها التأثيرية الفاعلة, وشدَّة اصطدامها الترويعي النَّصي الشديد على النفس المُتلقِّية مما يُحيل أثر نسغها الروحي إلى نهاية مَيِّتَةٍ مُوْءُودةٍ.
غيرَ أنَّ ما يشفع للقاصِّ أمير ناظم ويُحسبُ له جمالياً في نصه العنواني(اِحترامٌ مَفقودٌ) الدال على موضوعية معانيه الإنسانية والفكريَّة المتواشجة, هو جودته الفنيَّة كنصٍّ أدبي قصصي مائز اشتملَ على عناصر فنيَّة أخرى عديدةٍ مثل, (التحوِّل من لغة التعبير النثري العادي إلى لُغة الإبداع التخليقي الفنِّي),ومن (لُغة المُباشرة والتقريرية الممقوتة إلى لُغة الإيحاء الإشارية المرموزة), ومن (بثِّ الصورة الفردية الجزئيَّة إلى الصورة التكامليَّة الجمعيَّة الكُّليَّة),ومن (طرائق التقليدية النمطيَّة المُتقُولِبة إلى هُدى آفاق التجديدية الحداثوية) للميتا سرد القصصي الذي يواكب تحوِّلات العصرنة.
إنَّ ما يُميِّز نصّ(احترامٌ مَفقودٌ), أنَّها قصةٌ ذات بنيةٍ تسريدٍية حركية تحوليَّة تنموية غير تنميطيَّةٍ ثابتةٍ, بدليل انفتاح كاتبها نفسه على ثيمة الغرائبية والعجائبية الموضوعية هذا من جانب, وعلى المخيال الأُسطوري الدافق الذي يرقى بقيمة العمل القصصي السردي إلى السمو من جانب فنِّي آخر. وفي كلا الجانبين المتناظرين توليفاً وتكييفاً ومُثاقفةً, كان عنصر التكثيف الشديد والقصْر الموجز والإيحاء الدلالي السمة البارزة لأركان هذه القصَّة القصيرة جدَّاً.
ولعلَّ الأمرٍ الإيجابي الفنَّي الآخر الذي لا يمكن أن نتغاضى عنه عرضاً في قراءتنا النقدية, أو نغفله عمداً في نصِّ أمير ناظم (احترامٌ مَفقودٌ), هو قصدية القاصِّ الفكريَّة الهادفة, وميله الأُسلوبي الحدثي الشديد إلى لُغة البعد الإشاري الرمزي(السيميولوجي) الحركي الصوري الواضح في تذييل خواتيم قصته التي يقول فيها: ((اِكتفَى بِأنْ أدَارَ وَجهَهُ بِاتِّجاهِ الخَطيبِ, فَوضَعَ أصبعَهُ عَلَى فَمِهِ)). وربَّما أراد الرائي أمير ناظم أبعدَ من ذلك التوصيف, أراد أن ينقل رسالة إشارية إجرائية واضحة عن أثر تقديس صورة الشعبيَّات التراثية الموروثة عن المرويات التاريخية الدينية السائدة آنياً في المجتمع العراقي؛ كون الأديب الرائي هو المرآة العاكسة لصور ضمير الأُمَّة النابض بالتحوِّلات.
فمثل هذه الصورة الانزياحية الحركية الشعورية لها دلالاتها الأيقونية الإشارية البالغة الأثر, ولها مقاصد موحياتها السيميائية البصرية القريبة والبعيدة التي توجِّه حركة البطل نحو هُوية الآخر. وهذا الفعل الحركي المُفنَّن سردياً يشي بأنَّ إشارةَ وضع الأصبع على الفم تساعنا فنيَّاً ونفسياً وسردياً على تحليل وتفكيك شفرة حركة الأصبع اللُّغوية والدلالية , وذلك من خلال قيام البطل بهذه الحركة اللَّا إرادية, التي ربَّما تعطي الفم إيعازاً إشارياً إيمائياً معيَّناً في الالتزام بالسكوت والامتناع عن لغة الكلام,((وربَّ إشارةٍ أبلغ من عبارة)) كما يقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (159-255ه)في توصيفه لآليات ِلُغة التواصل الكلامي بين الناس حركياً وبيانياً.
ويحيلنا أيضاً هذا الفعل الحركي اللَّاصوتي الهادئ على فهم محاولة شخصية بطل القصة الصموتية وسبر إصراره العجيب على عدم البوح بالكلام أو التَّحدُّث مع الأشخاص الآخرين الذين خُيِّلَ لهم بأنَّه أخرس ٌ أبكمٌ غيرُ قادرٍ على الكلام, ومن ثُمَّ تركيزه الذهني الشديد على خاصية الاستماع إلى الخطيب من خلال صورة الإنصات إليه. تلك دلالة واضحة على عدم الاحترام الذي عدَّه القاصُّ أمراً مفقوداً في الفضاء الزمكاني السردي؛ كون لغة الصمت هي اللُّغة التحذيرية الناطقة بصورتها(الإمجية) الإشارية التي فرِضتْ نفسها على واقع الحال الحياتي الجمعي المعيش.
بقي أنْ يعرف القارئ المثابر والمتلقِّي الواعي اللَّبيب ذو العين النقدية الثالثة أنَّ هاجساً نسقياً آخر يُضاف إلى مزايا أُسلوبية الكاتب ناظم التعبيرية, ذلك هو تقنية المواءمة التوازنية بين فاتحة القصة وخاتمتها, أي التفنُّن الأسلوبي الدقيق بجماليات المطالع والخواتيم.
فإذا كانت لغة الصمت والسكوت وعدم الحركة والثبات هي الُمهيمنة على عقدة النص الحكائي, وهي من الإشارات الانبعاثية المهمَّة للشخصية الصورية التي وشمت مفتتح القصة التي تميَّز بها جمال المطلع, فإنَّ ختام القصة الموحي بدلالات الحركة الصمتية الكلامية مزدانٌ أسلوبياً بحسن جمال المُفتتح الذي كان مناسباً للتخلُّص الموضوعي الذي يفرض علينا القول بأنَّ ختام القصة موصول فنيَّاً وجمالياً بحسن ديباجة لغة فنِّ المطلع, وهذا مما يضفي على البناء القصصي بهاءً .
ويغلبُ على ظنِّي كثيراً أنها محاولة ذكيِّة من القاصِّ أمير ناظم في خلق لغة التوازن السردي لفاعلية حركة شخصية بطله الوئيدة بدءاً من مسار البدايات وانتهاءً بعجلة النهايات التي وظَّفها لتلك الشخصية القصصية المركبة وغير المُسمَّات باسمٍ معيَّنٍ ما؛ وذلك امتثالاً وتماشياً مع آليات حداثة لغة القصِّ السردي القصير جداً. والتي يمكن أن نضع لها عنواناً رمزياً مناسباً تحت اسم (سيمياء شخصية الأهواء الصورية المُركبة). والتي لا شكَّ أنها من سمات أنساق الحداثة الأسلوبية الظاهرة والخفيَّة في النقديات الثقافية السردية الجديدة التي تجلو النصَّ وتكشف أسراره الداخلية.