نجوى الغروب (٣٦)
أعرف، يا ربِّي،
أنَّ الطريق إلى المحبَّة التي أنشد
طريق محفوف بالأهوال
ومفروش بالشوك والحَصى المسنَّنة،
وأنَّ على سالكه أن يدمى عقله وقلبه
قبل أن تدمى يداه ورجلاه،
وأن يتصبَّب العرق من خياله وإرادته
قبل أن يتصبَّب من جبينه وباقي جسده،
وأن تلهث وتستغيث “أنا”ه
قبل أن تلهث وتستغيث رئتاه،
وأن يُفرغ كشكولَه من محتواه
ليملأَه بالمحبَّة التي تأبى أن تحصر ذاتها
في شيءٍ دون باقي الأشياء،
أو في إنسان دون باقي الناس،
أو في زمانٍ بعينه
ومكانٍ بعينه.
مثلما تأبى أن تصنِّف أصنافًا:
فمحبَّة الوالدَين للأولاد،
ومحبَّة الأولاد للوالدين،
ومحبَّة العاشق للمعشوق،
والصديقِ للصديق،
والطائر لوكره،
والإنسان لمسقط رأسه.
وتأبى أن تُقاس بذراع
أو أن تُكال بصاع،
أو أن تُدَرَّج في الحرارة
من الصفر وحتَّى الغليان.
كذلك تأبى المحبَّة
أن يكون المحبوب ملكًا للمحبّ.
فهي وحدها المالكة كلّ ما كان،
وما هو كائن،
وما سيكون ،
منذ الأزل
وإلى الأبد.
ولا شريك لها في ملكها.
أجَل. إنِّي لأعرف، يا ربِّي،
أنَّ ذلك هو طريق المحبَّة،
وأنِّي سائر فيه.
ولكنَّني لا أعرف
أين أنا اليوم منه.
وكثيرًا ما تساورني شكوكٌ
في قدرتي على السير
حتَّى النهاية.
وبخاصَّةٍ عندما تزحف عليَّ الظلمات الحالكات،
وتهبُّ العواصف العاتيات
من قِبَلِ أهل الأرض وقالِهم،
وشهواتهم ونزواتهم،
وتكالبهم وتناحرهم،
فيوشك زيت سراجي أن ينضب
ونوره أن يُسلم الروح.
إلَّا أنَّني في كلِّ مرَّة يدنو منِّي اليأس
لا ألبث أن أُحِسَّ يدًا حنونًا تُربِّت كتفي
وأُخرى تملأُ سراجي بالزَّيت.
وإذا بنوره يتجدَّد ويتألَّق ويمتدُّ.
وإذا بي أُبصر آثار أقدام
هنا وهناك.
فتستأنس روحي،
وتتجدَّد عزيمتي وتشتدُّ،
وأدرك أنَّني لست وحدي في الطريق،
وأنَّ رفاقًا سبقوني
لن ينسوني ويهملوني.
وعندئذٍ يعود قلبي
فيطفح بنعمة المحبَّة،
وتعود روحي تغنِّي.
حتَّى إذا آذنت شمسي بالغروب
صفَّقَت لها جوارحي،
وأيقنتُ أنَّ غروبها
سيكون شروقًا.
– ميخائيل نعيمة
– بسكنتا، 1972/8/4
٢٨ شباط ١٩٨٨ – ٢٨ شباط ٢.٢٤
٣٦ سنة مرّت على الغياب
*******
المفكر ميخائيل نعيمة في ذكرى رحيله
مفكر عربي وهو واحد من ذلك الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية وأحدث اليقظة وقاد إلى التجديد وأفردت له المكتبة العربية مكاناً كبيراً لما كتبه وما كتب حوله. فهو شاعر وقاص ومسرحي وناقد وكاتب مقال ومتفلسف في الحياة والنفس الإنسانية وقد أهدى إلينا آثاره بالعربية والانجليزية والروسية وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية.
ولد في بسكنتا في جبل صنين في لبنان في شهر تشرين الأول من عام 1889 وأنهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية فيها، تبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 حيث تسنّى له الاضطلاع على مؤلّفات الأدب الروسي، ثم اكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية (منذ كانون الأول عام 1911) وحصل على الجنسية الأمريكية. انضم إلى الرابطة القلمية التي أسسها أدباء عرب في المهجر وكان نائبا لجبران خليل جبران فيها. عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي. لقّب ب”ناسك الشخروب”، توفي في 22 فبراير1988.
مؤلفاته :
في الدراسات والمقالات والنقد والرسائل وضع ميخائيل نعيمة ثقله التأليفي :
المراحل، دروب 1934.
جبران خليل جبران 1936.
زاد المعاد 1945.
البيادر 1946.
كرم على درب الأوثان 1948.
صوت العالم 2005 1949.
النور والديجور 1953.
في مهب الريح 1957.
أبعد من موسكو ومن واشنطن 1963.
اليوم الأخير 1965.
هوامش 1972.
في الغربال الجديد 1973.
مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب 1974.
مختارات من ميخائيل نعيمة وأحاديث مع الصحافة 1974.
رسائل، من وحي المسيح 1977.
ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول.
كما قام ميخائيل نعيمة بتعريب كتاب “النبي” لجبران خليل جبران .
قصصه :
نشر نعيمة مجموعته القصصية الأولى سنة 1914 بعنوان “سنتها الجديدة”، وكان حينها في أمريكا يتابع دراسته، وفي العام التالي نشر قصة “العاقر” وانقطع على ما يبدو عن الكتابة القصصية حتى العام 1946 إلى أن صدرت قمة قصصه الموسومة بعنوان “مرداد” سنة 1952، وفيها الكثير من شخصه وفكره الفلسفي كتبها بالإنكليزية ثم العربية . وبعد ستة أعوام نشر سنة 1958 “أبو بطة”، التي صارت مرجعاً مدرسياً وجامعياً للأدب القصصي اللبناني/العربي النازع إلى العالمية، وكان في العام 1956 قد نشر مجموعة “أكابر” .
سنة 1949 كتب نعيمة رواية بعنوان “مذكرات الأرقش” ثم رواية ( لقاء ) بعد سلسلة من القصص والمقالات والأِشعار التي لا تبدو كافية للتعبير عن ذائقة نعيمة المتوسع في النقد الأدبي وفي أنواع الأدب الأخرى.
“مسرحية الآباء والبنون” وضعها نعيمة سنة 1917، ثم كتاب ( الغربال ) 1923 ثم مسرحية “أيوب” صادر/بيروت 1967.
ما بين عامي 1959 و 1960 وضع نعيمة قصّة حياته في ثلاثة أجزاء على شكل سيرة ذاتية بعنوان “سبعون”، ظنا منه أن السبعين هي آخر مطافه، ولكنه عاش حتى التاسعة والتسعين، وبذلك بقي عقدان من عمره خارج سيرته هذه.
شعره :
مجموعته الشعرية الوحيدة هي “همس الجفون” بالعربية وفيها بعض القصائد بالإنكليزية .