بقلم ناجي أمهز
أول هذه المتغيرات التي حصلت بالأمس بعد التصريح الأردني هو الحياد بأن الأردن لن يعترض القصف الإيراني على الكيان الإسرائيلي. وهذا الكلام طبيعي جدًا، فالدول التي فتحت أجواءها للعدو الإسرائيلي ليقصف اليمن وإيران والعراق، لا يحق لها أن تعترض على الرد الإيراني، أو تكون هذه الدول شريكة لإسرائيل في الهجوم على اليمن وإيران.
مع بداية عام 2003، دعيت إلى لقاء خاص أعتبره مفصلًا أساسيًا في حياتي المعرفية. هذا اللقاء كان مع شخصية سويسرية، وكنا 13 شخصًا مع المترجم. تحدث هذا الشخص عن الحرب على العراق وتحدث وقتها عن مقتل أولاد صدام، وذكر أنه سيأتي وقت يأخذ فيه أحدنا الملعقة وينظف بها لسانه (كورونا). تحدث أيضًا عن أهم شخصيتين في الشرق الأوسط، إحداهما وليد بيك جنبلاط، وقدم هذا الوافد شرحًا مطولًا لما سمي بالهلال الشيعي الذي يشكل مظلة حقيقية للاستقرار العالمي، خاصة في الشرق المضطرب، وأن هناك عقولًا في مختلف دول العالم تنظر إلى إيران على أنها سحر الشرق وسلام الشرق ونعيم الشرق القادم. وتحدث عن مقاربة بين صراع الحضارات لهنتنجتون (1996) وحوار الحضارات لخاتمي (2001).
وصناع القرار العالمي يدركون ان مشكلة ايران ليس لانها شيعية، بل مشكلة ايران انها تريد تحرير القدس الذي تخلت عنه النظم العربية.
عندما سألته عن سبب تقلب وليد جنبلاط في السياسة، أجابني بما ترجم لي: “وليد جنبلاط متواجد في دائرة صناعة القرار، لذلك هو يقرأ ويعرف قبل غيره ماذا يحصل”. وشرح لي كيف نشاهد الأمور وكيف يشاهدها وليد جنبلاط. قال لي: “لنفرض أن هناك شخصًا واقفًا على القمر وحرك يده، ستصلك صورة الحركة لكن بعد ثوانٍ، والبعيد عن مراكز القرار مهما كان حجمه وقوته لا يشاهد الأشياء إلا بعد الانتهاء منها. وكأنك تذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم، كل ما عليك فعله هو الجلوس والتأمل والتفاعل، والمخرج سيكتب لك أسماء الأبطال ونهاية الفيلم السينمائي. لذلك، إما أن تكون من شارك في صياغة السيناريو أو عليك أن تتفرج فقط، ولا تملك أكثر من ذلك”.
كتبت هذا الكلام بشأن وليد جنبلاط عدة مرات في السنوات الماضية، وكان أبناء الطائفة الشيعية يلومونني بشدة على مدحي لوليد جنبلاط في عز الانقسام الحاد، وقد أقصيت من الطائفة الشيعية منذ عام 2009 عندما تركت التيار الوطني الحر حتى عام 2018. والذين وقفوا إلى جانبي هم فقط رجال الدين في الطائفة الشيعية، لأنهم رجال بحث وتنقيب وعلم ومعرفة وربط الأمور والمسار التاريخي والديني. كنت دائمًا أراهن على عودة وليد بيك جنبلاط إلى الطائفة الشيعية، بناءً على ما سمعته أكثر من مرة من شخصيات ذات وزن كبير تؤكد أن حكمة الموحدين التاريخية لها روابط أساسية مع الطائفة الشيعية، لا تنفك ولا تتغير.
قبل نهاية عام 2000، التقيت مع دبلوماسي لبناني شهير، وفي سياق الحديث أخبرني رواية لا أعرف إن كانت حقيقة أو على سبيل الحكمة. قال: “ذات يوم كان الرئيس بري ووليد جنبلاط عند الرئيس الأسد، وكان وليد جنبلاط يجلس واضعًا إحدى الرجلين على الأخرى. فقام الرئيس بري بنفس الفعل، فابتسم الرئيس حافظ الأسد ونظر إلى الرئيس بري، فقال الرئيس بري وهو اللبيب: طيب ما جنبلاط حاطط رجل على رجل، فقال له الرئيس الأسد: إذا نزل الثانية ما نعرف وين بصير، خليه متل ما بده بس يضل عنا.
ما كان يجهله الغالبية حتى يومنا هذا هو أن الرئيس حافظ الأسد كان يهتم بثلاث شخصيات لبنانية فقط لحاجته إليهم على المستوى العالمي: الشيخ رفيق الحريري، وليد جنبلاط وفارس بويز؛ هذا الثالوث هو الذي شكل الدور الفاعل لسوريا في العالم.
بعد مغادرة السوريين لبنان، استغرب الكثير من اللبنانيين عام 2007 الاهتمام الكبير من الرئيس الأمريكي جورج بوش بالنائب وليد جنبلاط، وهذا الاستغراب كان مبررًا كون اللبنانيين لم يكونوا على علم بوزن وليد جنبلاط، حيث كان وليد جنبلاط قد جير كل علاقاته للرئيس الأسد. يومها كتبت: “وليد بيك عوده ضعيف بس حجمه يغطي المنطقة”. بالفعل، بدأ اللبنانيون يشاهدون رجال الدول العظمى يتقاطرون لزيارة وليد بيك جنبلاط، الذي كان يستقبلهم دون تكليف، بالجينز وحتى دون أن يمشط شعره أو يغير هندامه.
في الختام، نحن الشيعة بحاجة إلى النخبة من أجل اكتمال البناء والمعرفة والتمرس بالعمل السياسي. ولم يعد ينفعنا هؤلاء المستجدون في السياسة الذين ضيعوا وقتنا وأهدرنا عليهم أموالنا، وصغرنا أنفسنا أمام الدول لأجلهم. النخبوي هو النخبوي، أما هؤلاء بياعي الكلام سواء في السياسة أو الإعلام، فهم يدمرون الطائفة الشيعية ويجعلون الدول ومراكز القرار تنظر إلينا بنوع من الاستغراب، “من هؤلاء؟” “ما هو تاريخهم؟” مع من جلسوا؟ أين تعلموا أو احترفوا أو مارسوا فن السياسة؟ وهل كل شخص يقرأ كتابًا في الفيزياء يمكن في اليوم التالي أن يطرح نظرية النسبية من وجهة نظره؟
وإذا كانت الطائفة الشيعية لا تعرف من هؤلاء، فإن مشكلتنا في السياسة كبيرة، وإن كان هؤلاء خدعوا الطائفة بأنهم قادرون على صناعة رأي عام فإن المشكلة أعظم وأخطر بكثير. الدول ليست غبية، خاصة أعداء الطائفة الشيعية، فهم يعرفون أحجام كل الأشخاص عالميًا وخصوصًا في الدائرة حول الطائفة الشيعية اللبنانية. وإذا كانت أمريكا وإسرائيل تترصدان القادة العسكريين في المقاومة، هل يصعب عليهما أن تترصدا كم سياسي وكم إعلامي وهم مكشوفون حتى برسائلهم الغرامية؟
في مركز القرار وفي الدول الكبرى لا يوجد أغبياء، لذلك اليوم وجود وليد بيك جنبلاط هو قيمة بحد ذاتها. وحتما هذه الدول والنظم العميقة في العالم تعرف لماذا وليد جنبلاط إلى جانب الطائفة الشيعية، لأن الشيعة باعتدالهم يشكلون هذا الاستقرار الطبيعي، خاصة في بلد متعدد الطوائف والمذاهب والمشارب الفكرية والسياسية.
اليوم يولد شرق أوسط جديد، ولكن كي لا تكون الولادة شاقة ومتعثرة وبحاجة إلى عملية قيصرية نحن بحاجة إلى نخب سياسية وإعلامية. فقط النخبة عدد قليل وفعل كبير. لا تهدروا أوقاتكم وأموالكم على زرع لا ينبت.