”
.. الفنان الجزائري مصطفى زميرلي
قصدنا منزل صاحب رائعة ” تفضلي يا آنسة ” بمدينة يوسعادة ، الواقعة جنوب العاصمة الجزائرية ، تبعد عنها 270 كلم ، في صباح يوم الاثنين السادس من تشرين الأول ، وهب علينا نسيم هذه المدينة الجميلة قبل منتصف النهار ، ركنا السيارة أمام إحدى المراكز التجارية على مدخل المدينة وأخبرنا الفنان بمكان تواجدنا ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى كان الفنان أمامنا وكله نشاط وحيوية وكأنه في سن الأربعين يحتفظ لم يفقد شيء من ملامح زمانه الرائع ، لا يبدو عليه تعب ولا شيخوخة ما عدا بعض الشعرات البيضاء التي تغطي سواد رأسه ، حاولنا إقناعه بأننا على موعد أخر يربطنا بأهالي ضيعة الهامل القريبة من بوسعادة ، على أن نعود له في مساء اليوم نفسه ، لكنه رفض رفضا قاطعا المرور دون تناول الغداء الذي اقترب موعده ولم يبق من وقته إلا ساعة واحدة ، وقد أعد لنا طبق الشخشوخة سيدة الأطباق الجزائرية ، فما كان علينا إلا تلبية طلبه والسير خلفه إلى منزله القريب من مكان لقائنا ، تناولنا الغداء وأخذنا قسط من الراحة التي هي ضرورية جدا بعد أكل الشخشوخة ، ثم باشرنا معه حوارا شيقا أخذنا من خلاله على محطات حياته الفنية والعادية ، من انطلاقته الأولى الناجحة إلى دوافع اختياره اللون الشرقي وهو من مدينة الكل فيها يغني ويرقص على أنغام الغيطة والبندير، أيضا تألقه داخل الوطن وخارجه ، علاقته مع الجمهور السوري ، إذ تعد سورية البلد العربي الوحيد الذي غنى به الفنان ، إضافة إلى نشاطه الفني في الوقت الحالي وهو في العقد الثامن لازال بدخله طموح لا حد له ، ندعوكم لمتابعة الحوار
بداية هل بإمكان القارئ الكريم معرفة جانب من حياة الفنان مصطفى زميرلي بشقيها الفني والإنساني معا ؟
أرحب بكم بمدينة بوسعادة وأشكركم على هذه الزيارة وعلى هذا الاهتمام ، أنا سعيد جدا بلقائكم ، مصطفى زميرلي واحد من أبناء الجزائر الشاسعة والجميلة ، تعود أصولي إلى مدينة بوسعادة لكني ولدت بالعاصمة ١٩٣٩ م وقضيت أيام طفولتي بين المدنيتين ، عايشت الثورة التحريرية وأنا شاب احمل بداخلي تطلعات كثيرة أهمها التخلص من قبضة الاستعمار ، ومقاسمة كل وطني مخلص حب بلدي وخدمته ، في الوقت ذاته أؤمن بالفن كرسالة قوية لمعالجة مختلف القضايا الاجتماعية المطروحة آنذاك ، التي شغلت بال الناس وطورت من وعيهم الوطني ، لذلك مزجت بين فرحة الاستقلال ونغم العود وأنتجت فنا يليق بتحديات تلك المرحلة ، كما أني أيضا ميال للموسيقى العربية منذ الصغر وامتدت يدي إلى الآلات الوترية في سن مبكرة ، وهذا لم يأت من فراغ ، بل كنت صاحب موهبة فنية عالية مكنتني من بتأسيس أول فرقة موسيقي سنة ١٩٦٣ م ، رفقة شباب من المنطقة ضمن نشاطات الكشافة الإسلامية أخذنا على عاتقنا توزيع فرحة الاستقلال .
اذا بوسعادة هي التي احتضنت انطلاقتك الأولى وليس العاصمة ؟
نعم بوسعادة فجرت بها موهبتي ، بكل فخر واعتزاز هي مدينة منفتحة على مختلف الفنون منذ القدم ، لا ننسى أنها احتضنت الفنان التشكيلي الشهير المستشرق الفرنسي إتيان ديني الذي سمى نفسه فيما بعد نصر الدين ديني ، فتن بجمالها بوسعادة وببساطة أهلها وكرمهم أقام بها إلى أن مات ، بعبارة أدق الكل هنا يغني ويرقص على أنغام الغيطة والبند ير ، طبعا هذا الجو كان عاملا إيجابيا هيأ لي مناخ لم أجده في مكان آخر ، ساعدني على تأسيس أول فرقة موسيقية في حياتي الفنية معتمدا على موهبتي ، استطاعت هذه الفرقة فرض نفسها محليا ووطنيا في وقت قياسي جدا ، أين شاركت في المناسبات الوطنية بشكل مكثف ، جالت وصالت أرجاء الوطن ، وهي بوابتي إلى عالم الفن بشكل رسمي ، دون توظيفي للموروث الثقافي والفني لمنطقة بوسعادة الغني جدا ، بحيث أسست لنمط غنائي خاص بي يواكب قدراتي الصوتية وميولي الموسيقي .
انت صاحب موهوب في مجال التلحين لدرجة ان الكثير يظن انك تدربت بمعاهد موسيقية عربية ؟
منذ الصغر املك موهبة التلحين مع اني لم ادخل المعاهد الموسيقية داخل أو خارجه ، وأنا الذي توليت تلحين جل الأغاني التي أديتها ، ولي في هذا الباب ذكريات جميلة نقشت بمخيلتي لا أنساها أبدا ، اذكر لكم واحدة ، في مطلع ١٩٦٣ م ، بعدما نجحت في تأسيس فرقة موسيقية ، زار مدينة بوسعادة وزير الفلاحة آنذاك لتدشين بعض المنشآت الفلاحة في إطار سياسة الدولة الرامية إلى النهوض بقطاع الفلاحة ، فكان الأمر مقدس جدا ، في هذه الأثناء طلب مني إحضار فرقتي للمشاركة في حفل استقبال الوزير ، بأداء أغاني تتماشى حول الفلاحة ، طبعا أن تغني في مواضيع أخرى متوفر ذلك وجائز ، أما أن تغني في موضوع الفلاحة هذا يحتاج إلى شعراء كبار لهم كفاءة عالية ، وبما أن الحياة في تلك الفترة لا تخلوا من الفرح والمرح مع بداية السنة الأولى من الاستقلال كان لدي شعور بالحماس لتقديم خدمة لبلدي ومشاركة الناس فرحتهم بأسلوب فني محض أنا قادر على صناعته ، وبالفعل في تلك الليلة ألفت أغنية مع أني لست شاعرا ، لحنتها في صباح الغد أحسن تلحين وقدمتها للوفد الزائر ، ولان الأشياء التي تأتي بعفوية يحضرها دائما الجمال ، تركت تلك الأغنية اثر في نفوس الزائرين منهم الوزير نفسه أشاد بعمل الفرقة وروعة تقديمها ، هذا العمل الفني العفوي الذي جاء في ظرف قصير اكسب الفرقة فيما بعد شعبية واسعة لم نكن نتوقعها .
لمصطفى زميرلي علاقة طيبة مع الجمهور السوري ، وقد لمسنا هذا من خلال ما ينشر بمواقع التواصل الاجتماعي ، خاصة حبهم لأغنيتك الجميلة تفضلي يا آنسة ، حدثتنا كيف نفذ مصطفى الى داخل جمهور له معرفة ودراية بقواعد الفن يصعب الاحتكام إليه ؟
نعم في مطلع الثمانينات كانت لا تصلني دعوات لإحياء المناسبات الفنية المقامة بالجزائر إلا نادرا ، مع أني أتمتع بشهرة عالية في كامل أرجاء الوطن ، هذا الفعل رأيت فيه إجحاف في حقي بحيث قلص من نشاطي وأثر سلبا على وضعي الفني ، في هذه الظرف قررت السفر إلى بلد عربي والتقرب من الجمهور العربي لعل ذلك يكون أفضل شيء أقوم به ، خاصة واني واثق من قدراتي الفنية ولم اشعر بضعف في أي جانب ، فكانت وجهتي سوريا مطلع ١٩٨٦ م ، التحقت بعائلة من بوسعادة تسكن دمشق ، بعد وصولي سورية توجهت مباشرة إلى السفارة الجزائرية هناك ، أين التقيت بالسفير الذي سمع إلى بعض طموحي الفنية وأتصل على الفور بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السوري واخبرهم بوجود فنان جزائري بمكتبه ، بإمكانهم استقبالي وبرمجتي لأحياء حفل فني يتزامن مع وجودي هناك ، ولحسن حظي كانت الأمور كأنها مرتبة من فترة طويلة ، إذ زامن زيارتي سورية التحضير لإحياء ذكرى تأسيس حزب البعث ، في الوقت ذاته وجدت في بعض الموسيقيين السوريين من يعرفني جيدا بحكم زياراته إلى الجزائر ، كل هذه الظروف قوت عزيمتي وأعطتني دافعا لأكون ضمن حفل رائع تجاوب معه الجمهور وصفق طويلا ، خاصة عند أدائي لأغنية ” تفضلي يا آنسة “، من كلمات الشاعر الكبير سليمان جوادي وتلحيني ، طبعا هذا الحفل أسس لعلاقة محبة واحترام بيني وبين الجمهور العربي السوري الذواق للفن الأصيل و يبقى كل هذا من أهم الذكريات الجميلة بعالم الفني .
لماذا سوريا بالضبط ؟
قلت لكم في السابق هناك أقارب لي يقيمون بدمشق قدموا لي تسهيلات السفر ، أيضا قبل كل هذا فكرت طويلا في بلد عربي به جمهور يعرف الفن له دراية ومعرفة يحكم بالعقل لا بالعواطف ، وقد وقع اختياري على الجمهور السوري فأصبت ، لعلمكم الفنان مصطفى زميرلي لم يغني في أي بلد عربي آخر من غير سوريا ، وأي دعوة تأتيني من هذا البلد سوف لن ارفضها حتى وان تقدم بي السن .
يعني بذلك ان مصطفى زميرلي لم يغادر ميدان الفن بعد ؟
أنا ولدت للفن ولا يمكنني أن أعيش دونه ، ومن سار على هذا النهج لا بد أن يؤمن بالرسالة التي هي بين يديه ويعتبرها شيء مقدس ، أما ما يقال هنا وهناك عن اعتزالي فهو مجرد إشاعة و لا غير ، خاصة واني بدأت الإنشاد الديني لكبار الشعراء الجزائريين باللغتين العربية والفرنسية ، وسجلت بعض منها هي الآن في متناول الجمهور ، متوفرة بالمواقع الاجتماعية بإمكانه سماعها .
شكرا على سعة صدرك وصبرك لنا ، وكرم الضيافة
شكرا لكم انتم أيضا على تحملكم عناء الطريق من العاصمة إلى بوسعادة
مكتب الجزائر : ابو طارق الجزائري