ركض اللبنانيون واللبنانيات، يوم أمس، للبنان.. فلم يدركوه أو انهم تاهوا عنه، فلقد صار لبنان كثيراً في تعدده، وصار شعبه أمماً شتى في فرقته، شأنه في ذلك شأن إخوانه العرب في سائر أقطارهم.
ومع التقدير للجهد الذي يبذله منظمو هذه المسيرة الفريدة في بابها، والتي تغيب عنها السياسة برغم احتشاد السياسيين المتقاطع بعضهم مع البعض الآخر، في صدارتها، من أجل الصور الملونة والطائرة عبر الفضاء إلى أربع رياح الأرض، فإن هذا التلاقي الموسمي، لساعتين، لا يمكنه ان يطمس الحقائق المرة التي تخيم فوق رؤوس الراكضين/ الراكضات والتي تسبقهم إلى منازلهم عند انتهاء "المشوار".
فاللبنانيون يركضون خلف الأمان، فلا يدركونه، ربما لأنهم يجدون من يحرفهم عن طريقه أو يطمس معالم الطريق أمامهم..
هي دقائق جامعة، للمختلفين إلى حد التخاصم، المتقاطعين إلى حد العداء، يركضون بملابس زاهية، في شارع واحد، ثم يعود كل إلى موقعه البعيد عن مواقع الشركاء في مسيرة الركض القصيرة.. وبرغم ذلك فهي ظاهرة طيبة، ولو انها محصورة في المكان والزمان والمشاركين، لا صلة لها بما قبلها ولا يتبدل شيء بعدها.
اللبنانيون يركضون، ولكنهم لا ينجحون في تحديد وجهة سيرهم.. فسوريا غارقة في دماء أبنائها، وقد كانت دار الأمان لهم وللعرب الآخرين، إضافة إلى أهلها… بل ان الدماء السورية تطوف فتغطي بعض لبنان وتخلخل ركائز الأمان والاستقرار فيه، وقد قررت "الدول" أن توسع دائرة الحريق فيها بحيث تلامس جوارها جميعاً، لا سيما وقد سهلت لأصحاب اللحى الطويلة والمشعثة ممن يحتكرون الإيمان وينصبون أنفسهم ديانين، ان يقتحموا حدود سوريا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، لنشر الدعوة إلى الدين الحنيف بينما أهله يحتفلون بالقرن الخامس عشر لانتشاره في أربع رياح الأرض.
ثم ان العراق يعيش تحت وطأة زلازل لا تنتهي خلفها الاحتلال الأميركي فيه فأخذت تفتك بأهله وتمنع تلاقيهم وتشردهم، مرة أخرى، يبحثون عن الأمان في أي أرض، وثروات وطنهم منهوبة، لا فرق في جنسيات الناهبين، إذ انهم في نهاية الأمر شركاء.. وبغداد المثخنة بجراح أمسها تخاف يومها حتى الموت وتعجز عن استشراف غدها، والبلاد تمزق بسكاكين الطائفيين والنهابين والهاربين إلى الانفصال.
أما القاهرة فمشغولة بهمومها الثقيلة، قد استنزفها طغيان الحاكم الفرد، والتهم تجار الدين ثورتها الأولى وكادوا يدمرون الوطن وأهلها، وها هي الثورة الثانية تكافح لاستنقاذ الدولة ـ الأم، التي لا مستقبل للعرب من دونها، ولا أمن لبلادهم المهددة بالتفكك والاندثار إلا معها وبها.
اللبنانيون يركضون فلا يصلون… تهرب منهم لقمة الخبز، فيقصدون البلاد البعيدة لأن الفقر في الوطن غربة، وتهرب منهم الكهرباء والماء، ويمنون النفس بثروة من النفط والغاز مهددة بالضياع أو بالنهب، نهب العدو الذي باشر استغلال مياه لم تكن له في أي يوم.. اما نهب الداخل فمرجأ!
واللبنانيون يركضون فلا يصلون إلى "حكومة عادية" تسهل عليهم شؤون يومهم، ولا إلى حكومة وحدة وطنية جامعة تتبدى الآن وكأنها "المستحيل"..
واللبنانيون يركضون طلباً لأمن لا يتوفر لهم، لا في عاصمتهم الأميرة، ولا في طرابلس الفيحاء ـ أم الفقراء التي تنزف دمها على مدار الساعة ولا من منقذ،
واللبنانيون يركضون.. وصيدا تركض باحثة عن ذاتها، وهي المدينة التي كانت تجمع ولا تفرق،
واللبنانيون يركضون خلف الأمان في مختلف أنحاء وطنهم الصغير، فلا هم يجدون دولتهم المغيبة بقرار من أصحاب القرار، المتروكة للريح، لا حكومتها مؤهلة لأن تحكم ولا مجلس نوابها قادر على إكمال نصابه، ولا قوى أمنها قادرة على فرض الأمن بينما قياداتها موزعة الولاء على "الزعامات" التي لا يمكن ان تبقى متحكمة "بالرعية"، إذا ما قامت الدولة.
اللبنانيون يركضون.. ولبنان يركض مبتعداً ومعه حلم الوطن، والدولة تكاد تصير هيكلاً بلا روح،
اللبنانيون يركضون، ولا يصلون!