في الأشهر التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لاحظ الزميل أسعد أبو خليل أن المدى الحقيقي للنفوذ الذي بناه الحريري في أوساط الإعلام والسياسة لم يظهر إلى ما بعد رحيله، حين بانت الولاءات الفعلية في لحظة انشقاق، كاشفة عن شبكة مصالح لها امتداد في كلّ دائرة ومنظمة ووسيلة إعلام، يميناً ويساراً، وفي مختلف معسكرات ذلك البلد الصغير
بالمعنى نفسه، تُظهر وثائق وزارة الخارجية السعودية، التي تنشرها «الأخبار» بالتعاون مع «ويكيليكس»، مقدار السطوة التي فرضها النظام السعودي على الإعلام، ولكن على مستوى الإقليم والعالم ككلّ، وهي قد تفوق تصوّرات أعداء النظام السعودي عن خصمهم، وتُظهر جانباً مخيفاً من تعامل المملكة مع نقّادها وأتباعها، وتجعل من الكلام عن «هيمنة سعودية» في إعلامنا حقائق وأرقاماً، لا مجرّد شائعات واتهامات.
الهوس بالصورة
لديه الكثير من المال، والقليل من الكفاءة، وهوسٌ بصورته أمام الخارج. هذا، باختصار، هو الانطباع الذي تعطيه الوثائق عن «العقل» الدبلوماسي السعودي. الكثير من حكومات العالم تملك مكاتب إعلامية، وتطلق حملات علاقات عامة حين تتعرض لهجوم من الصحافة المحلية، وتحاول استمالة مراكز النفوذ في العواصم الكبرى. ولكنك لن تجد حكومة كالسعودية، يعجّ أرشيف سفاراتها ببرقيات التحويلات المالية لشراء صمت وسائل الإعلام وتواطؤها، من كندا إلى إندونيسيا، ومن أوستراليا إلى باكستان، وصولاً إلى دول نائية، كالتشاد والنيجر و بوروندي، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها «حيوية» بالنسبة إلى السياسة السعودية، أو أن ما ينشر في إعلامها قد يقدم أو يؤخّر بالنسبة إلى استراتيجية المملكة (في مالي مثلاً، تدفع السفارة دعماً مادياً – على شكل اشتراكات – لكل الصحف التي تصدر في البلد).
تظهر الوثائق همّاً مركزياً للدبلوماسية السعودية يتمثل في ملاحقة أي نقدٍ للمملكة، ولو في أقاصي الدنيا، والعمل على استمالة أو إسكات قائله، حتى لو كان موقعاً صغيراً على الإنترنت لم يسمع به أحد. أمّا في منطقتنا العربية، حيث تمتزج القدرة المالية السعودية بنفوذ سياسي كبير، فالمعادلة مختلفة تماماً: الاستثمار المادي أكبر، وهو يصير بملايين الدولارات لمن «يخدم سياسة المملكة ومصالحها»، والعقوبات ضدّ المخالفين أشدّ وأقسى، إذ تلاحق الحكومة السعودية «الإعلام المعادي» ومن ينتقدها في كلّ مكان. فتنسق حملات كبيرة لمنع القنوات الإيرانية من البث عبر الأقمار الصناعية، وتهدد وسائل إعلام عريقة تخاف السفارة «نشوزهنّ» بالمحاصرة، وقطع العائدات الإعلانية، ومنع البث الفضائي.
«التحييد» و«الاحتواء»
في عام 2004، اتخذت الحكومة السعودية قراراً بإغلاق المكاتب الإعلامية الملحقة بسفاراتها واستبدالها بعقود تجارية مع شركات متخصصة بالعلاقات العامة، لتقوم هي بترويج صورة المملكة وتنفيذ حملاتها الإعلامية. بحلول عام 2013، كانت 15 سفارة سعودية قد وقعت عقوداً مع هذه الشركات، فواتير بعضها موجود في الوثائق، وهي بملايين الدولارات.
السبب في القرار كان أن «المراكز والمكاتب الإعلامية للمملكة في الخارج… أثبتت عدم جدواها، وتحولها إلى مكاتب تشغيل وليس نشاط حقيقي». هذا ليس مستغرباً بالنظر إلى حال البيروقراطية السعودية وكفاءتها؛ فمن يرسل، بكل جدية، برقية ممهورة بختم «سري للغاية» للاستفسار عن مؤلف قاموس «وبستر» لدفعه إلى تعديل تعريفات في قاموسه ليس في وارد أن ينسج استراتيجيات إعلامية فاعلة، وأن يصل إلى عقل الجمهور، في بلاد بها صحافة تنافسية ومستقلة.
هنا تركّز دور السفارات السعودية (أو «النجديات» كما تسمي نفسها في المراسلات الداخلية) على ملاحقة من ينتقد سياسة المملكة وتمويل الحلفاء والأتباع. ولأن الإدارة السعودية تتصف، كما أسلفنا، بكثرة المال وقلة المهارة، فقد طوّر الدبلوماسيون السعوديون أسلوبين ــ لا ثالث لهما ــ للتعامل مع الصحافة والنقد: نثر المال وقمع المخالفين؛ واستمالة الإعلام تجري عبر منهجين، يتكرر ذكرهما في الوثائق، هما «التحييد» و«الاحتواء».
«التحييد» هو أن تقيم السفارة صلة مالية مع مؤسسة أو كاتب أو شخصية، حتى يكون نتاجهم الإعلامي خالياً من أي نقدٍ للمملكة وسياساتها ورموزها، وإن لم تخدم السياسة السعودية بنحو مباشر وناشط. لهذا الهدف، ترصد السفارات السعودية، في كل بلد تقريباً، ميزانية خاصة لدعم أكبر عدد من وسائل الإعلام المحلية، تقدّم على شكل اشتراكات (بعشرات أو مئات أو آلاف النسخ من الصحف والدوريات والكتب)، وتكون بقيمة محددة لكل وسيلة إعلامية بحسب حجمها وتأثيرها.
قد تقتصر هذه الميزانية على عشرة أو عشرين ألف دولار في بلاد صغيرة وفقيرة، وتصل إلى مئات آلاف الدولارات في دول إسلامية أو غربية مؤثرة. في سلسلة برقيات من كوناكري، تلحّ وكالة الأنباء الغينية على سفارة الرياض لاستئناف مساعدتها السنوية المعتادة (وهي لا تزيد على ألفي دولار) لـ»حاجة الوكالة الماسة للمبلغ» ولأن المعونة «تحل الكثير من المشاكل التي تواجه الوكالة».
في الدول العربية تعتمد الخارجية أسلوب الدّعم تحت مسمى الاشتراكات، ولكنها تسعى ــ في إقليمها وساحتها الخلفية ــ إلى ما هو أبعد من التحييد، أي «الاحتواء». والاحتواء، في قاموسهم، هو تحويل وسيلة إعلامية (أو شخصية وكاتب) إلى «رصيد» في الترسانة السعودية، يُسهم في الترويج لخط النظام، ويشارك في حملاته ضد خصومه.
بفضل مبدأ «الاحتواء» هذا تقدر المملكة حين تدعو الحاجة، في بلدٍ كلبنان، على استنفار وحشد «وسائل الإعلام الموالية للمملكة مثل صحيفة «النهار»، و»المستقبل»، و»الجمهورية»، والطلب منها رفع لهجتها ضد من يسيئون إلى المملكة كتّاباً كانوا أو وسائل إعلام». وفي مصر، حين يقوم تلفزيون «اون تي في» ببث مقابلة مع المعارض السعودي سعد الفقيه، ترسل الخارجية فوراً أمراً إلى سفارة القاهرة للتحري عن القناة واختيار سبيل للتعامل معها، «إما أن تجري استمالتها أو أنها تقف في الصف المضاد لسياسة المملكة».
الوقوف «في الصف المضاد لسياسة المملكة» هو ما لا يرغبه مالك القناة، الملياردير نجيب ساويرس، الذي قام ــ إثر اتصال السفير للاحتجاج ــ بتأنيب المشرف على المحطة «وطلب منه عدم استضافة الفقيه مرة أخرى»، واعداً السفير بعدم تكرار هذا الأمر، وعارضاً عليه «أن يكون ضيفاً على البرنامج».
الأوامر السامية
يحدد عمل الدبلوماسيين السعوديين وأولوياتهم جملة من «الأوامر السامية» التي تصدر من «أعلى»، وتحدد الخطوط العامة للسياسة الإعلامية وحدود المسموح والممنوع. الأوامر السامية 883 و2166، مثلاً، هي من بين قرارات عديدة صدرت لمواجهة إيران، تطلب «تجاهل احتجاج الحكومة الإيرانية والاستمرار في تعرية الدور الإيراني… مع عدم التعرض للشأن الداخلي الإيراني ورموز الدولة بشكل لافت». أما الأمر السامي 7796، فهو يتعلق بالسياسة الإعلامية في مصر، حيث أجرت السعودية بعد سقوط مبارك عملية إعادة تقييم شاملة للإعلام المصري، ووضعت استراتيجية جديدة تتضمن «التعاقد مع شركة إعلامية مصرية متخصصة يقوم عليها العديد من الإعلاميين المصريين ذوي الخبرة العالية والتأثير الكبير لمواجهة الإعلام السلبي»، واستمالة الفاعلين في الجو الإعلامي الجديد بمصر، وتوجيه دعوات السفر إليهم ومحاولة «احتوائهم».
الإعلاميون العرب الذي يبغون الدعم والتمويل يفهمون أيضاً عداوات السعودية وهواجسها، ويخاطبونها عبرها، فنجد النقيب الحالي للصحافة اللبنانية، الإعلامي عوني الكعكي، يطلب الدعم المالي تحت شعار مجابهة إيران. وبالروحية نفسها، يتوجه صحافي مصري كمصطفى بكري إلى السفير ليبلغه أن الإيرانيين قد «بدأوا في الاتصال به»، طالباً دعم السعودية لعدة مشاريع تخصه، بينها تشكيل حزب سياسي و«إطلاق قناة فضائية تكون صوتاً قوياً ضد الشيعة وتساند مواقف المملكة».
أكثر ما يخيف القيّمين على تنفيذ «الأوامر السامية» هو جوّ إعلاميّ حرّ في المحيط العربي، لا تضبطه الحكومة ولا يمكن توقع ما ينشره. تستفظع برقية، تناقش وضع الإعلام المصري بعد سقوط مبارك، أن الاعلام لم تعد تديره «السلطة الأمنية والسياسية»، وصار «يتحرك مع الرأي العام» بدلاً من أن «يقوده».
هذا ما نلمسه أيضاً عبر النشاط السعودي المحموم في تونس بعد الثورة. حين قررت السلطات السعودية إعادة بناء العلاقات مع البلد والتواصل مع راشد الغنوشي، طالبت الوزارة بإعادة تقويم شاملة للساحة الإعلامية التونسية الجديدة، بدءاً ــ بالطبع ــ بـ»تقديم الدعم المالي للمؤسسات الصحفية المؤثرة في تونس».
وللسعودية، بالتأكيد، طريقتها في «ضبط» صحافتها داخل المملكة وخارجها: الإعلام المحلي «تدوزنه» الأوامر السامية، مع لجان تجتمع أسبوعياً لمراجعة ما يرد فيه و»التعامل مع الكتابات المسيئة».
وحين يشتكي سعد الحريري من مقالات تنتقده في «الحياة» و»الشرق الأوسط» (كتبها عبد الرحمن الراشد وداوود الشريان)، تقترح الخارجية، ببساطة، «وقف مثل هذه الكتابات التي لا تخدم الأهداف المنشودة للمملكة». وحين يظهر مسؤول حوثي، بالخطأ على الأرجح، على قناة «العربية» عام 2007، تطلب السفارة «الإيعاز إلى قناة العربية» بعدم استضافته مجدداً.
هذا كلّه ليس إلا غيضاً من فيض حكايات الأرشيف السعودي. ستقدّم «الأخبار» ــ في الحلقات المقبلة ــ أمثلة عديدة (وصادمة) عن نهج المملكة في مصادرة الرأي وإخراس النقاد، بأساليب تراوح بين الإغراء والاستمالة والتهديد والابتزاز. سنعاين أيضاً، للأسف، ضعف الكثير من نخبنا أمام المال، واستعدادها للتذلل والتزلف وبيع الموقف لمن يدفع. ومن لا تزل لديه أوهام حول وجود الهيمنة السعودية أو اتساعها، فما عليه إلا أن يراقب تعامل وسائل الإعلام العربية مع هذا التقرير وتلك التي ستليه، وكم منها سيجرؤ على نقلها وذكرها ونقاش محتواها.
رابط المقال في جريدة الأخبار (مرفق ببرقيات ويكيليكس