عندما يتعلّق الحديث بالكيان الصهيوني، فإنّ أصدق التصريحات والتحليلات هي تلك التي تصدر عن قيادة الكيان الصهيوني ومراكز الدراسات والأبحاث الصهيونية.
وعلى الرغم ممّا يحصل في المنطقة من حرب قاسية إلّا أنّ مستوى التوتّر والقلق في الكيان الصهيوني في أعلى مستوى خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالجبهة الشمالية التي امتدّت لتشمل الجولان السوري فعلاً لا قولاً.
وفي الحديث عن الجبهات القتالية، لا يمكننا أن نتجاهل أهمية الجغرافيا في ساحات المعارك، وخصوصاً اذا كانت المساحات الجغرافية التي نتحدّث عنها ذات عمق كبير وامتداد طويل ومترابط.
وما يجري الآن في جبال القلمون هو عكس تمنيّات القيادة الصهيونية التي عملت بجهد على تثبيت سيطرة الجماعات المسلّحة على مدن وبلدات القلمون، وهو ما يعكسه تصريح رئيس شعبة العمليات في الموساد بعد سقوط يبرود حيث قال إنّ جهد سنتين من الإعداد والتدريب والتجهيز والإشراف العملياتي قد ذهب سدىً.
أمّا الهدف الأساسي الذي أراده الصهاينة فكان وصل القلمون بكامل امتداه بقمة حرمون وإغلاق معبر جديدة يابوس بين لبنان وسورية، والسيطرة على العاصمة دمشق من الجانب الأقرب جغرافيًا وإسقاطها نهائياً بعد اكتمال الطوق. واذا ما عدنا بالذاكرة الى الوراء لتذكّرنا تصريحات قادة الجماعات المسلّحة على اختلافها حول الموضوع، وهو أمر يتكرّر هذه الأيام ضمن شروط لم تعد موجودة لتغيّر الظروف والمعطيات وخرائط السيطرة.
ومع انتهاء معركة جبال القلمون التي باتت محصورة في بعض جرود الجراجير وقارّة في الجانب السوري وأجزاء من جرود عرسال ورأس بعلبك في الجانب اللبناني، سيكون بمقدور الجيش السوري والمقاومة اللبنانية التحكم بشكل كبير بمفاصل جغرافيا كبيرة تمتد من القنيطرة وصولًا الى مشارف حمص باستثناء مدينة الزبداني وبعض محيطها، والتي لا تشكّل أي تهديد عسكري حالياً والتي يُمكن أن تشهد مصالحة قريبة، إلّا أنها في الحالتين محيّدة عن المعارك الكبيرة.
هذه السيطرة على هذا الإمتداد الجغرافي المذكور سيتيح للجيش السوري والمقاومة تأمين الحماية لأجزاء كبيرة من المنطقة الحيوية للدولة السورية من العاصمة دمشق وصولاً حتى حمص وحماه والساحل.
كما أنّ هذه السيطرة ستجعل الجيش السوري قادراً على سحب قوات كبيرة بالآلاف الى جبهات أخرى سيكون أهّمها الجبهة الجنوبية وتحديداً في الجولان السوري، خصوصاً أنّ الخطّة البديلة لتطويق دمشق وإسقاطها قد بدأت، وما المعارك الدائرة بلدة حضر الجولانية ومعركة مطار الثعلة في محافظة السويداء إلّا مقدمة لمعركة دمشق، وأنا هنا اعرض الهدف المشترك للجماعات المسلّحة ولا أتبنّاه.
وممّا لا شك فيه أنّ القيادة الصهيونية التي ادركت جديّة السيد حسن نصرالله عندما اعلن عن وحدة الجبهة من جنوب لبنان الى الجولان تعمل بشكل جدّي على خلق حزام آمن لها وهو أمر ليس بجديد، يكون على شاكلة جيش لحد في الجنوب اللبناني عماده جبهة النصرة وجماعات أخرى قريبة من النصرة في العقيدة وتتماهى معها في المصالح أحيانًا وتختلف أحيانًا أخرى.
وعلى أساس التحولات الميدانية في القلمون، سرّعت جبهة النصرة المدعومة مباشرةً من الكيان الصهيوني وبكل أشكال الدعم وهو أمر لم يعد خافياً وظهر الى العلن منذ فترة، حيث تُشاهد الدوريات على جانبي الحدود وتتم عمليات نقل الجرحى الى المستشفيات الصهيونية علناً كما تتم عمليات الدعم الناري الصهيونية للجماعات المسلّحة بشكل واضح، فيما تقدّم المراصد الصهيونية معلومات هامّة عن تحركات الجيش السوري وتقوم بالتشويش على اجهزة اتصالاته اثناء سير العمليات.
وبالعودة الى ما تتناقله مراكز الدراسات الصهيونية والخبراء والصحافة في تل أبيب، يتبين لنا مدى القلق الصهيوني من عمليات القلمون التي يتابعها الجيش الصهيوني والموساد بالتفاصيل المملّة.
وأبرز ما جاء من تعليقات في وسائل الإعلام الصهيونية هو استغرابهم كيف يمكن لمقاتلي حزب الله القتال في ثلاجة وعلى تضاريس طبيعية أقل ما يقال فيها انها تشكّل عدواً إضافياً، إضافة الى النصرة وداعش اللذين يضمان مقاتلين لا يجب الإستهانة بقدراتهم خصوصاً انهم قضوا ما يزيد على السنة في حالة تعايش مع هذه التضاريس وهو الأمر الذي راهنوا عليه لهزيمة حزب الله.
أمر آخر قد لا يعرفه العامّة ومن لم يخبر القتال في القمم العالية، وهو تأثير المرتفعات لناحية الضغط الجوي وما يشكّله من تأثير سلبي على المقاتلين وعلى الأسلحة وكيف استطاع حزب الله تجاوز الأمر.
كما أن الخبراء الصهاينة لم يخفوا خشيتهم من المهارات القتالية الفردية لمقاتلي حزب الله حيث يتنقلون بمرونة عالية وبرشاقة غير معهودة رغم كمية العتاد الذي يحملونه، إضافةً الى أنماط القتال المرتبطة بالحركة والنار حيث تتم بشكل غير مسبوق وهو دليل الخبرات العالية في اطلاق النار من الحركة وثقة المقاتلين ببعضهم اثناء الحركة.
الأمر الذي يخشاه خبراء الكيان الصهيوني هو التنسيق العالي بين مشاة المقاومة واسلحة الدعم الناري من مدفعية وصواريخ، وكذلك استخدام طائرات الإستطلاع بدون طيار والمسلّحة منها على وجه التحديد، وهو أمر يؤكد الخبراء الصهاينة خطره على كيانهم.
المسألة الأهم هو خشية الصهاينة من ان تتحول جرود القلمون في ظل توحيد الجبهات الى مواقع إطلاق لصواريخ المقاومة وتحديداً البعيدة المدى منها، حيث يوجد حوالي 2000 كلم مربع من التضاريس المعقدة يمكن إخفاء منصّات الصواريخ فيها عن نظر الطائرات الصهيونية وخصوصاً في الوديان التي تتجه انحداراتها نحو فلسطين المحتلّة، ما يزيد في قدرات المناورة وإطلاق النار لناحية الزمن المستغرق إضافة الى عمق كبير يصل الى حدود الـ200 كلم وفي منطقة قريبة من مراكز التخزين المحتملة.
وما متابعة الصهاينة لما يجري في القلمون إلّا نتيجة خوفهم من ان يتكرر السيناريو في الجليل الذي تؤمن هضابه الكثيفة الأشجار إمكانيات الحركة لمقاتلي حزب الله ضمن ظروف التمويه الجيد وبعيداً عن اشكالية الضغط الجوي على المقاتلين والأسلحة، حيث ستكون حركة المقاتلين افضل بكثير ممّا هي عليه الآن في القلمون.
الموضوع المهم أيضاً والذي يقلق الصهاينة هو مواكبة الاسلحة الصاروخية المحمولة للمقاتلين والتنسيق فيما بين الوحدات المتقدمة بمختلف تشكيلاتها.
وانطلاقاً من هذا الخوف الصهيوني صار واضحاً ما يرمي اليه الصهاينة من تحريك جبهة حضر، حيث تعتبر حضر مع تلالها عائقاً بوجه جبهة النصرة لوصل قواتها مع بيت جن ومزرعة بيت جن بثلاثة أهداف:
الهدف الأول: وهو التقدم باتجاه قلعة جندل وبقاع سيم لتطويق وحدات الجيش السوري الموجودة في قطنا من الجهة اللبنانية عبر وادي جنعم بعد دخولها من جهة شبعا ووديان جبل الشيخ.
الهدف الثاني: هو الإندفاع من جهة سعسع بعد تطويق وحدات الجيش السوري في جبا وتلال الكروم والشعار والسيطرة عليهما فيما بعد، وإكمال المسير الى قطنة بالموازاة مع عمليات كثيفة من خان الشيح والسيطرة على تل الكابوسية ووصل هذه القوات المتقدمة من جديد بداريا.
الهدف الثالث: التوجه نحو العرقوب وجذب قوات كبيرة للمقاومة الى خطوط الاشتباك الجديدة ومنعها من القدرة على المناورة وتقديم الدعم لقوات تقاتل في جبهات أخرى.
في المبدأ هذا ما تفكر به الجماعات المسلّحة وستحاول تنفيذه بدعم صهيوني واضح على اعتبار أنّ تنفيذ هذا السيناريو سيضع دمشق في المواجهة مع جبهة تمتلك عمقاً طويلاً وخط إمداد للجهة الصهيونية.
هذا السيناريو بات مكشوفاً وتحت نظر الجيش السوري والمقاومة وسيواجه بمفاجآت غير محسوبة يمكن لمن يشاء أن يدرجها تحت باب المعلومات وليس التحليل، وإن كان التحليل يلعب دوراً كبيراً اذا ما تمّت قراءته بحيادية.
ختاماً، لفترة طويلة من الزمن لن يكون بوسع الجماعات المسلّحة تنفيذ خططها للعديد من الأسباب، أهمها مفاجآت الميدان غير المحسوبة والاسلحة النوعية والإستراتيجية التي ستزج في المعركة عندما تذهب في هذا الإتجاه.
ضابط سابق (خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية)