كتب كتب ناهض حتر في صحيفة الاخبار اللبنانية،حين علمتُ أن الموفد الرئاسي إلى الرياض، للاجتماع بالرجل القوي وزير الدفاع، ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، كان، بالذات، رجل الأمن في سوريا، اللواء علي مملوك، اتضحت، فوراً، الرسالة السورية الحاسمة: التفاهم السوري ــ السعودي يبدأ، أولاً، بالملف الأمني، وعنوانه مكافحة الإرهاب، وفي تفاصيله، وقف الإمدادات السعودية للجماعات المسلحة والهيئات المعارضة المصطنعة، إلخ.
الموفد الرئاسي كان ــ بحد ذاته، أي بموقعه لا بشخصه ــ الرسالة الجوهرية والقناة الدبلوماسية الممكنة في الوقت الحاضر. وكان هذا الخيار قراراً سياسياً يتعامل مع المبادرة الروسية في حدودها، أي في حدود بناء تحالف سوري ــ سعودي ــ تركي ــ أردني، لمكافحة الإرهاب. لكن اللواء المملوك، حمل، شفوياً، رسالة سياسية: ذكّر بمحطات التنسيق بين الدولتين، وإمكانية استئناف مظلة «سين ــ سين» العتيدة؛ مظلة من شأنها التوصّل إلى تفاهمات إقليمية، تتناول اليمن والعراق والبحرين، إلخ.
لقاء الرياض لم يكن محطة منبتة الصلة بما تلاها؛ استمرت الاتصالات التي يلحّ الروس على مواصلتها، وبلوغها نهاية سعيدة. تنطلق موسكو من اعتبارات متداخلة؛ فهي أدركت، أولاً، أن التوصل إلى حل سياسي للحرب على سوريا لا معنى له في سياق داخلي؛ فالمعارضون السوريون المستعدون للحوار، لا يستطيعون تقديم ما هو مطلوب منهم لإجراء تسوية، أي وقف النار. هذا القرار موجود لدى الرياض وأنقرة، خصوصاً الرياض التي يمكنها وقف عمليات المسلحين، ما عدا عمليات «داعش» التي تحولت خطراً على الجميع، وعلى الجميع الاتحاد لمقاتلتها.
تمثل السعودية، في الواقع، عاملاً داخلياً في سوريا، لجهتين؛ ففي المملكة يعمل ويقيم حوالى مليونين ونصف المليون من السوريين. وهؤلاء ــ وذووهم ــ يشكلون كتلة اجتماعية لديها الحوافز للسير، بشكل عام، وراء السعودية التي تمثّل، شئنا أو أبينا، الممثل السياسي للسنّة في المنطقة. أما روسيا التي تتقن لعبة الشطرنج، فتنظر إلى اللوحة الإقليمية والدولية، بعد إتمام تسوية الملف النووي الإيراني، نظرة مركّبة؛ فهي عملت، بجدّ، لإنجاز تلك التسوية، وهي مرتاحة لتنامي قوة إيران الإقليمية، وتتطلع إلى شراكة اقتصادية ودفاعية معها، ولكنها، في الوقت نفسه، تنظر، بحذر، إلى إمكانية انجذاب الإيرانيين إلى تفضيل الغرب في تعاملات مع بعد رفع الحصار، ولكن حذرها الأساسي يكمن في إمكانية خسارة المركز الأول في سوريا لمصلحة طهران.
في خطاب الرئيس بشار الأسد (26 تموز 2015) استكمال علني للمفاوضات السرية مع السعودية التي حددت خلافها مع سوريا في نقطتين، هما العلاقة مع إيران ودعم حزب الله. كان الأسد واضحاً في تحديده ثلاثة ثوابت للمصالحة مع السعودية، هي: (1) إيران دولة شقيقة؛ التحالف معها سيستمر بلا شك، ولكن ليس لدى الإيرانيين قوات في سوريا. وربما يناقش البعض، صحة هذا القول، ولكنه، في السياسة، يعني أننا لن نستعين بقوات إيرانية، وأنه لن يكون هناك قوات إيرانية في سوريا. (2) لا يدخل حزب الله/المقاومة، تحت بند النفوذ الإيراني، بل هو جزء من القوة السورية، ومن المعادلة السورية ــ اللبنانية؛ فهو خارج النقاش. (3) إن المنطلق الوحيد لمناقشة أي تفاهمات، يتحدد في بند واحد هو مكافحة الإرهاب.
لم يأت الرئيس الأسد على ذكر العدوان السعودي على اليمن، ولم يشر إلى أيّ من الملفات الإقليمية الساخنة الأخرى. باب التفاهمات مفتوح، إذاً، حالما يتم الاتفاق على وقف دعم الجماعات المسلحة ومواجهة الجماعات الإرهابية. هذا هو الأمر الجوهري الذي سيكون على الرياض حسم موقفها إزاءه.
من نافل القول إن مسألة تنحّي الرئيس بشار الأسد، كشرط للتسوية، أصبحت من الماضي؛ فالرياض تتفاوض مع حكومة الأسد بالذات، بلا وسيط محلي من هيئات معارضة أو سواها. الآن، يجري الحديث الدولي عن فترة انتقالية غير محددة بعد، ولا يمكن تحديدها واقعياً، تحت قيادة الرئيس السوري، الفائز في انتخابات 2014، ذات الصدقية. ولاية الرئيس تنتهي في عام 2021؛ عندها، ستكون سوريا الجديدة قد تشكلت، وتم إنجاز عمليات إعادة الاعمار، وتطوير الاقتصاد السوري، وإعادة طرح مسألة الجولان، بالمقاومة أو بالمفاوضات، أو، على الأرجح، بكليهما معاً. آنذاك، سيرى الأسد ــ وحزبه السوري والعربي الذي يتخطى حزب البعث ــ هل هناك ضرورة لكي يترشح لولاية أخيرة وفق الدستور الجديد ـ الذي لا يسمح إلا بولايتين ــ أو لا.
ردّ الرئيس الأسد في خطابه المهم على أسئلة مطروحة في المفاوضات السورية ــ السعودية، لكن الإجابات وصلت، أكثر صراحة، من خلال قناة اتصال سرية، تحدد الإجابة على المطالب السعودية بوضوح:
ــ إيران الشقيقة حليف، سنعزز العلاقات معها دون انعكاس سلبي على القرار السوري المستقل. ويمكن لدمشق أن تلعب دوراً إيجابياً في كسر الجمود بين طهران والرياض، والمساهمة في إطار لتهدئة مخاوف الخليج، وتحسين المناخ الإقليمي. أما حزب الله، فهو حزبنا وجزء من تركيبتنا.
ــ لا مانع من طيّ صفحة الماضي، والتوافق على مكافحة الإرهاب، وتطبيع العلاقات، والبحث في تجديد النظام العربي المرتكز على السعودية وسوريا ومصر. وهو ما سيكفل التوصل إلى حلول للملفات العالقة في المنطقة، ويضمن حواراً عربياً ــ إيرانياً لتحسين المناخ الإقليمي كله.
روسيا تدعم هذا التوجه بحرارة؛ فلها مصلحة في استقرار الشرق الأوسط، بما يمكنها من استعادة حضورها والتوسع في استثماراتها وتمتين علاقاتها مع سوريا ومصر… والسعودية التي اكتشفت، أخيراً، أنها بحاجة إلى شبكة أمان تتجاوز وحدانية الاعتماد على الولايات المتحدة. وفي الواقع، هناك خمسة ملفات هي موضع تقاطع مصالح بين الرياض وموسكو، هي:
أولاً، تهتم روسيا بالتوصل إلى إطار متوازن بين القوى الإقليمية ــ يندرج في إطار عودتها إلى الشرق الأوسط ــ بين إيران (حليفة روسيا) وتركيا (الشريك الاقتصادي المهم بالنسبة إليها) والعرب (سوريا الحليفة ومصر التي استعادت جزءاً من دينامية العلاقة القديمة مع روسيا، والسعودية التي تتقرب من الروس الآن). ويشكل هذا الإطار، أفضل صيغة للرياض للحفاظ على نفوذها الاقليمي والتخلّص من هواجسها الأمنية، والتوصل إلى تسويات في الملفات الاقليمية، وخاصة اليمن.
ثانياً، النفط؛ بدأت السعودية، بعد تورطها في الحرب على اليمن، تدفع غالياً ثمن انخفاض أسعار النفط، المنتظر انخفاضها أكثر مع دخول إيران، مجدداً وبقوة، إلى السوق العالمي، ما يفرض على الرياض وموسكو تنسيق سياساتهما النفطية.
ثالثاً، تحدي المنافسة الشرسة لشركات النفط المستخرَج من الصخر الزيتي، خصوصاً في الولايات المتحدة. ويشكل نفط الصخر الزيتي تحدياً استراتيجياً بالنسبة إلى النفط الأحفوري.
رابعاً، السلاح. وتسعى السعودية، في سياق تأمين قدراتها الدفاعية، للحصول على أسلحة متطورة، خارج القيود الأميركية المعروفة. والمصدر الممكن هو روسيا، المتلهفة، بدورها، لاختراق ضخم في السعودية والخليج، يرفع حصتها في سوق السلاح الدولي. وهناك معلومات أكيدة عن شروع الدولتين في مفاوضات سرية مكثفة، قد تنتهي بصفقات سلاح ضخمة.
خامساً، النووي. تطمح السعودية إلى بناء مفاعلات نووية، تضع المملكة في موازاة إيران. وهي تتطلع إلى روسيا لإنجاز هذا المشروع.
أمام هذا المشهد الذي يتشكّل هناك عقبتان، أولاهما، الملف السوري؛ فسوريا العائدة إلى لعب دورها الإقليمي، هي حجر الرحى في كل هذه الدينامية التي يريد الروس إطلاقها. ومن هنا حرصهم الشديد على المصالحة السورية ــ السعودية. وثانيتهما، العرقلة الأميركية للتوجه السعودي في التفاهم مع الروس. لكنّ المناخ الدولي والاقليمي، وهواجس السعودية التي لا يتعامل الأميركيون معها بجدية كافية، والتقارب الدولي بشأن ضرورة وقف الحرب على سوريا، كلها عوامل تلعب باتجاه تشكيل مشهد إقليمي جديد برعاية روسية. وفي هذا السياق، تتبلور دينامية مصرية ــ سعودية جديدة، للتلاقي مع المستجدات في الملف السوري، والشروع في البحث عن سبل إحياء النظام العربي الثلاثي. وإذا كان هنالك توافق على شأنين، أولهما بناء حيثية عربية موازية قادرة على التفاهم مع إيران، واستيعاب صعودها الإقليمي، وثانيهما مكافحة التنظيمات الإرهابية، فقد شهدت المباحثات بين وزيري خارجية البلدين (30 تموز 2015) مقاربات مختلفة إزاء الملف اليمني والإخوان المسلمين و«حماس»، وقطر.
المقاربة السعودية الجديدة نحو الإخوان، ربما تدوّر الزوايا في العلاقات السعودية ــ القطرية، المتوترة تاريخياً. لكن مصر ليست في وارد المصالحة الجدية مع القَطريين، بينما القرار السوري هو العمل على استبعاد قطر وتحجيمها؛ في عام 2014، كانت هناك مبادرة قطرية نحو دمشق، رفضتها القيادة السورية من دون الخوض في التفاصيل. وفي اللقاء بين اللواء علي مملوك ووزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان، كان للموفد السوري موقف عنيف من الدوحة ودورها في تخريب العالم العربي.