تكسرت «عاصفة الجنوب» على أسوار درعا، بعد خمسة هجومات واجهها الجيش والأهالي بالثبات والصبر. «الأخبار» جالت في الأحياء السكنية التي انطلقت منها شرارة الأحداث السورية. مقاهٍ وحياة شبه طبيعية بعد أسبوع من المعارك الدامية. المقارنة بين الحياة تحت سلطة الدولة والحياة تحت سيطرة المسلحين كفيلة بإحداث تبدّل في المزاج الشعبي
لا يأبه ديك الحجل بالسيارات القليلة المسرعة على أوتوستراد دمشق ـــ درعا، فتراه يتمختر فوق الاسفلت بين ضفتي حقول حوران السمراء. قِلَّة الحركة في السنوات الأخيرة على الطريق الجنوبية، تُطمئن الحجل والحمام البري، بقدر ما تُقلق العابرين من موتٍ مفاجئ يتربّص بهم. لكن «الله هو الحامي»، يقول السائق.
الوجهة مدينة درعا، بعد أسبوع من هجوم المجموعات المسلحة عليها في محاولة فاشلة لاحتلالها، وهي المحاولة الخامسة تحت عنوان «عاصفة الجنوب». عند حاجز الجيش السوري في بلدة خربة غزالة، يبدأ طريق قصير محفوف بالخطر غرباً إلى داخل المدينة، عبر «الطريق الحربي» المحاذي لبلدة عتمان، الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة. نشر الجيش حواجزه هنا ورفع سواتر ترابية وتحصينات اسمنتية على جانبي الطريق تجنباً للقنص والصواريخ، لكن قذائف الهاون تبقى كل الخطر.
في الأسبوع الماضي، «حَرَّمَت» الجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم «القاعدة» وزُمر محلية أخرى مدعومة من غرفة العمليات الأردنية «الموك»، شوارع درعا على سكانها. أكثر من 12 ألف قذيفة صاروخية ومدفعية ودبابة وجرّة غاز هطلت فوق خطوط الدفاع والأحياء السكنية في «الكاشف» و«شمال الخط» و«السبيل» و«المطار» و«السحاري» و«المنشية» و«القصور» في درعا المحطة، انطلاقاً من التلال القريبة من الحدود الأردنية وأحياء «درعا البلد» و«طريق السدّ» ومخيّم النازحين الفلسطينيين التي يسيطر عليها مسلحو «الموك» داخل المدينة. فَشِل التمهيد المدفعي ومحاولات الاقتحام في تحقيق خرق بخطوط دفاع الجيش على طول الجبهة، فانكفأ المسلحون، وسادت السكينة المدينة… إلى حين.
«حوران لا تجوع»
يستغل الولد الساحة الوسيعة أمام الفرن الحكومي ليصول ويجول على دراجته الهوائية المتواضعة، ومثله يفعل أولاد الحي. ابن الصف العاشر يتحاشى الوقوع بدراجته في الحفر التي أحدثتها قذائف الهاون، عبر حركات بهلوانية. مأمون ترك «الضاحية» مع أهله شمال غرب المدينة القريب من بلدة اليادودة التي يسيطر عليها مسلحون من «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـــ جبهة النصرة» و«حركة المثنى» التكفيرية، وانتقل إلى حي السبيل مع عائلته، ومثله فعل جدّه الذي انتقل من خطوط التماس في حي الكاشف مع المخيم إلى الحارة، ظناً أنها أكثر أمناً.
«شفنا المدرسة والعة، إجا فيها صاروخين»، يقول مأمون. «جنب بيتنا إجا صواريخ كمان، زمطنا»، يضحك اليافع. «شو بدك تعمل بس تكبر؟» يطوّق الخجل وجه مأمون: «خلينا ناخد الـ 11 عاد، وبعدين منفكّر، إذا بقينا عايشين»، يجيب الولد، بينما يطول الصف أمام شبّاك الفرن، وتزداد الحركة في الشوارع مع انكفاء الشمس نحو الغرب. يقدّر العامل على شبّاك البيع إنتاج الفرن بحوالى ألفي ربطة يومياً، بالإضافة إلى ما ينتجه فرنان خاصان آخران، بسعر 35 ليرة سورية للربطة الواحدة. حوران كانت يوماً ما «إهراءات روما»، ولن تجوع الآن.
«أبو الفردين»!
مات قاسم محاميد وجُرح أولاده الخمسة. ركام شقته التي هبطت من الطبقة الثالثة فوق سيارة «فان» رمادية بفعل «جرة غاز» أطلقها «الثوار» من المخيم، جزء من الركام الذي لا يزال يملأ أزقة حارة «السل». لقاسم ذكرى طيبة لدى رجال الحي المجتمعين تحت شجرة خلف «مستوصف السّل» الذي تحمل الحارة اسمه. يعتذر الأهالي عن الركام، ويؤكدون أنها المرة الأولى التي تتأخر فيها البلدية عن إزالة بقايا المعارك من الأزقة، قبل أن يتذكروا أن الزائر لبناني، فتتحوّل الجلسة إلى تبادل للنكات عن تلال النفايات التي تحتل شوارع بيروت «الآمنة»، وشوارع درعا النظيفة في عزّ الحرب.
عدد لا بأس به من أهل الحي هم في الأصل من سكان المخيم، فلسطينيين وسوريين من نازحي الجولان. وهؤلاء خرجوا باكراً من المخيم، بعدما تحوّل رفضهم للخروج في التظاهرات مصدراً للتهديد والقتل والخطف من محرّكي التظاهرات. «ربيع حبيب، شَعَّل المخيم وفل عالسويد» يقول أحد الرجال. مين ربيع حبيب؟ «بياع تمر هندي كان يقعد جنب قصر الحمرا، كانت شغلتو وعملتو يحرّض الناس بالمخيم». حتى في حارة السّل، كان الوضع خطراً قبل عامين ونصف عام، لم يكن قد دخل الجيش بعد، وكان «أبو الفردين» الحاكم بأمره في الحي. اضطر الأهالي مرات عديدة إلى تجميع الـ«بلوك» (حجارة البناء) فوق السطوح، والتسلّح بالعصي لردع «الثوار» عن استباحة الحي. «أبو الفردين» أو محمد أحمد المحاميد، حَكَّمَته «الثورة» بالعباد، وهو لا يزال في الـ 17 من عمره. الآن اختفى أبو الفردين، بعد مقتل المدني يوسف الأزرق وخطف عدنان المتوالي، وبات الخطر في الحي من رصاص القنص الآتي من متاريس المسلحين التي تبعد أمتاراً قليلة، والقذائف التي تهبط من السماء.
حديقة السبيل
شجيرات «الأمبريلّا» ترسم حدود الطاولات البيضاء المربعة في حديقة السبيل. المدينة في الحديقة نفضت عنها غبار البارود، وأصوات القهقهات المُتعبة تسرق مساحة الصوت من المدافع الساكنة. شبان وفتيات، نساء ورجال، يمضون ساعات الليل الأولى بطمأنينة وسكون، ينفثون دخان الأراكيل في الهواء الذي بات بارداً بعض الشيء، وتكاد لا تخلو طاولة من كاسات الشاي. طاولة الأستاذ فواز مسالمة (أبو أحمد) مسؤول الحديقة وعضو لجنة المصالحة في المدينة، عامرة باللقاء شبه اليومي مع الأستاذ عصام صياصنة مدير فرع الحبوب، والمهندس محمد مسالمة مدير مصلحة المياه، والأستاذ أبو فادي مسالمة عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الفلاحين.
«تفضّل»، ينهمك الرجال بتحضير الطاولة لـ«راكب» خامس. هؤلاء لم تمنعهم القذائف في الأسبوع الماضي من السهر كل ليلة هنا، يتبادلون أخبار النهار الطويل ويهربون من حرّ البيوت التي تصلها الكهرباء ساعتين، بعد انقطاع أربع ساعات بشكل دوري. يفرد الرجال الأربعة مساحةً للحديث عن مزاج المدينة وبعض الريف بعد المعركة الأخيرة. أبو أحمد خمسيني ضخم البنية بشاربين كثيفين، وكفّي يدين كبيرتين. يشير مسؤول الحديقة الذي نجا من عدة محاولات قتل في السنوات الماضية، إلى أن «الناس قِرْفِت من المسلحين»، (مع تشديد القاف باللهجة الحورانية)، ففي عرف المسلحين «المعتدلين» منهم والتكفيريين، «كل مين ساكن بالمدينة هوي شبيح»، وعلى هذا الأساس يتمّ استهداف الأحياء المليئة بالمدنيين، بغزارة توازي قصف خطوط الدفاع والمواقع العسكرية. «حتى اللي كان رمادي ومش حاسم خياره صار هلق مع الدولة للآخر»، يتحدّث الرجال عن أن صمود الجيش والأهالي أحدث حالة من الإحباط لدى المسلحين المحليين، وخلخل ما تبقى لهم من قواعد شعبية في القرى. «بكل هجوم، بيموت 100 أو 200 شاب من أبناء القرى المحيطة، بيحطوهم بالواجهة، وبقولولهم رح تسقط المدينة بساعتين»، يقول صياصنة.
«الحوارنة ناس أوادم وطيبين، والمسلحين استغلوا الطيبة، لكن الناس هلق صارت فاهمة بس مش قادرة تتحرك بالقرى» يقول المهندس. وهؤلاء الرجال هم نموذج عن «العشائر» الدرعاوية كالحريري وأبازيد ومسالمة والجوابرة والزعبي ومحاميد التي هي أشبه بالعائلات الكبيرة منها إلى العشائر التي تقطن مناطق في حمص والجزيرة السورية امتداداً إلى العراق. فلا «بيوت شعر» عند أهالي درعا ولا «مضرب جمال» بل بيوت عربية وتجمعات زراعية تمتد إلى آلاف السنين، أوصلت محافظة درعا في عام 2010 لتكون «المحافظة الخالية من الأمية». ومثلما يجد المسلحون من يؤيّدهم داخل العائلات، بسبب «التحريض الديني المذهبي والاغتراب في الخليج»، تجد الدولة من يتمسّك بها من أبناء العائلات. «قالوا للناس ثورة، أي ثورة هاذي اللي بتحرق الحقول وبتدمر المصانع والمعامل وتفقِّر الناس؟ وأي ثوار هادوله اللي بيسرقوا تعب الناس وبينتهكوا أعراضها؟». يقول الرجال إن بعض البيوت في القرى التي تقع تحت سيطرة المسلحين لا يتركها أهلها خوفاً من سرقتها، وفي حال اضطرت العائلة للنزوح أو اللجوء، يبقى أحد أفرادها مرابطاً في البيت، وقد يضطر إلى حمل السلاح مع الجماعات المسلحة كي لا يسرق بيته! مصطلح «كفّار» يثير غضب الرجال المجتمعين على الطاولة. «تقول الله وكلهم يحددوا مين يروح الجنة ومين يروح النار… كل واحد مش معاهم يعني كافر، احنا سنة ونصلي ونصوم»، يقول أبو أحمد.
الأخبار عن حركة المصالحات في القرى تبدو واعدة بعد انتكاسات المسلحين المتكرّرة. في غالبية القرى، الميليشيات المحلية تجنح نحو المصالحة مع الدولة، في حين تلعب الجماعات التكفيرية دوراً في التخريب، بدءاً من عتمان إلى اليادودة وطفس والمزيريب وصيدا والجيزة. إلّا أن قلة التنسيق بين الأجهزة الأمنية التي تعيد أحياناً اعتقال من قام بالمصالحة مع جهاز أمني آخر، تضعف الثقة بالمصالحات، فيما تقول مصادر أمنية إن «الدولة شرعت في حلّ جذري لمشكلة التشابه بالأسماء، التي تضع عدداً من الأهالي في صفوف الجماعات المسلحة لمجرد الخوف من الملاحقة».
التنقّل بين الطاولات يعني أن تسمع «نشوة النصر» على لسان الأهالي. «درعا صمدت، أهالي وجيش»، يقول حسن، طالب السنة الثالثة في كلية الآداب. يرتشف حسن «النسكافيه» ويخبر كيف أن أقرباءه في بلدة الغارية الغربية عندما يحسّون بأن المجموعات المسلحة تعدّ هجوماً على المدينة يسارعون إلى إخبار أهله لكي يأخذوا حذرهم. يقول الشاب إن «أقاربنا هناك يقولون للمسلحين من أبناء البلدة اتركوا المدينة بحالها، بدكم المدينة يصير فيها متل حالتنا؟ فوضى بفوضى؟!».
بعد أربع سنوات ونصف سنة على انطلاق الشرارة من درعا، تسطر المدينة صموداً أسطورياً في إفشال محاولات احتلالها، ولا تعض على جراحها فحسب، بل تشكّل الأمل الباقي لأهالي الريف بعودة الاستقرار والأمان، كما كان قبل يومٍ من 14 آذار 2011.
الأردن يسرق مياه درعا
صهاريج الماء لا تتوقّف عن العمل لتؤمن مياه الشرب والاستعمال لحوالى 500 ألف مواطن في درعا، يجري سحبها من 24 بئراً ارتوازية جرى حفرها خلال العام الماضي لتؤمن احتياجات المدنيين. فمصدرا المياه في نبعي الأشعري والمزيريب يقعان تحت سيطرة الجماعات المسلحة التي تقطع المياه حين تشاء عن المدنيين في الريف والمدينة معاً. مستوى المياه في حوض اليرموك هو الأعلى الآن بفعل قلة الضخ بعد التخريب الذي افتعله المسلحون بالشبكات، وشبكات الكهرباء التي تزوّد محطتي الضخ، فضلاً عن استهداف ورشات مصلحة المياه ومنعها من العمل وإصلاح الأعطال. وفي حمأة الاقتتال، لا يكتفي الأردن، الكيان الأفقر بمصادر المياه، بدعم المسلحين وتوجيههم من غرفة «الموك» لاستهداف الجيش السوري، بل يقوم بتوجيههم أيضاً لسرقة الموارد السورية، ومنها المياه. إذ يستفيد الأردن من وقف الضخ نحو مدينة درعا لسحب المياه التي تتجمع في مجرى اليرموك عبر المضخات، ويحوّلها إلى داخل أراضيه، مقلّصاً العبء عن إسرائيل التي تلتزم بتزويد الأردن بجزء من حاجته للمياه من بحيرة طبريا بموجب اتفاقية «وادي عربة».
«طشت» الماء والماكياج!
تكاد الباحة لا تتسع للطلاب داخل حرم «كلية التربية الثالثة». فالدورة التكميلية التي كانت مقرّرة قبل أسبوعين تم تأجيلها أسبوعاً بفعل الهجوم على المدينة، كما أن صفوف جامعة البانوراما انتقلت إلى هنا. ولأن شبكة الإنترنت باتت شبه معدومة بفعل استهداف مبنى البريد والاتصالات، لم تستطع إدارة الجامعة نشر نتائج الامتحانات على موقعها الإلكتروني، فاكتظت الجامعة بالطلاب، بين من يبحث عن قاعة الامتحان ومن يفتّش بين اللوائح المطبوعة عن نتيجته. ولاء، لمى وأنهار (أسماء مستعارة)، ينتظرن على مقعد خشبي حتى تنكفئ «العجقة»، وبقربهنّ آثار الحريق الذي تبقّى من أشجار البلح الصغيرة في الحديقة الخلفية، بفعل قذيفتي هاون. ولاء وأنهار قدمتا في الصباح الباكر من الريف، ولمى من دمشق، التي انتقلت إليها أخيراً مع أهلها. تخبر الفتاتان عن أحوال قريتيهما: «لا مي ولا كهربا… وجرة الغاز بـ 13000 ليرة!»… «أهلي بدهم يجوا يسكنوا بالمدينة، بس منخاف يسرقولنا بيتنا بالبلد»، تقول أنهار. أما ولاء، فتخبر كيف تحاول إقناع جدّتها بأن «الجيش مش كفّار» وأن «الناس اللي عم تموت بالمدينة سوريين من كل شي… بس شو بدنا نساوي، ببيت عمي ما في غير أورينت والعربية على التلفزيون». تبدي الفتيات قلقاً كبيراً من كشف هوياتهن عبر الإعلام، لأن طريق العودة إلى القرى تمرّ عبر حواجز «جبهة النصرة» و«حركة المثنى» حيث «اللباس الشرعي هو المسموح فقط». «حتى الماكياج ممنوع»، تضحك ولاء والفتيات: «حاطين طشت مي على حواجز المثنى والنصرة، ليغسلوا وجّ البنات!».
مسلحو الصنمين لم يشاركوا في الهجوم الأخير
ينهمك أمين فرع حزب البعث في مدينة درعا كمال العتمة في الردّ على هواتفه العديدة في مكتبه، لمتابعة ملفّ عالقٍ حول المصالحة في مدينة الصنمين، حيث يرأس لجنة المصالحة في مسقط رأسه. يقول العتمة إن الاتصالات والجهد والتجارب السابقة أفضت لعدم مشاركة أي من مسلحي الصنمين في الهجوم الأخير على درعا، فـ«القرى تدفع فواتير كبيرة من أبنائها، ليستفيد متعهدو الدم في الجماعات المسلحة ويقبضون الأموال من (الموك) على ظهورهم». يكرّر العتمة ما يقوله كل المسؤولين الرسميين والأمنيين في المدينة عن أن «درعا لن تسقط، ونحن نستشهد هنا ولا يدخلوها». في المكتب المجاور، تتابع ملك إبراهيم مسؤولة ملفّ الشهداء المدنيين في الفرع، فرز الاستمارات التي يتقدّم بها الأهالي لتصنيف أبنائهم كشهداء. بين يدي ملك أكثر من 319 استمارة جرى إنهاؤها بالكامل، ولديها مئات الطلبات الأخرى التي يجري إعدادها. بحسب ملك، المكتب يقوم بـ«دارسة كل طلب يتقدم إلينا وفق المستندات المطلوبة، لمعالجة ملفات كل شهداء المحافظة، وبإمكان الأسر حتى في القرى التي تخضع لسيطرة المسلحين التقدم من المكتب بأوراق أبنائها لتجري معالجتها واحتسابهم في عداد الشهداء بعد الحصول على الموافقات المطلوبة».