محمد محمود البشتاوي
كل الطرق في العاصمة مسقط تؤدي إلى سوق مطرح المُطل على البحر, العالق بين القلاع التاريخية, والجبالُ الشاهقةُ معلقةٌ ومتعرجةٌ في سلسلةٍ من الصخر الرمادي.
في مطرح سوق الظلام سابقاً, وسوق النور كما قال عنهُ أدونيس, ثمةَ ما يجذبك من الداخلِ إليه لأنكَ ترى بهِ عراقةَ أسواق الشام مع نكهةٍ خليجية تضفي على هويته خصوصية تمتازُ بالتنوع الذي يتلاشى فيه النمط القاتل في أسواقٍ أخرى.
البحر الذي تراهُ في آخر السوق..
كائنٌ غريبٌ, يوزِّعُ الألغازَ على المارة, الذين يصطفونَ على الحواجزِ, ينظرونَ إلى الفضاء لما وراءَ الاغتراب, ويتهامسونَ فيما بينهم, بلغاتٍ شتى, تكادُ أن تختلطَ, لتفرز أبجديَّة التعايش, والأفق الممتد أزرقٌ لا ترى له نهاية, وأنت تراقبُ النوارسَ تزعقُ عندَ الغروبِ, وهي تلاحقُ طيفها على صفحةِ الماء, فيما البواخرُ تمخرُ في عبابِ البحر وأخرى تستقرُّ لترسو على الميناء. تنتابكُ دهشةٌ وأنتَ تُفلِّي شوارعَ مطرح تمشي في رحابها, وتدلفُ من زِقٍّ لآخر, لتدخل في دهاليز الطرق المعبدةِ ببلاطٍ, والمسقوفةُ بالصخر المنقوشِ برسومٍ وزخرفةٍ تعيدك إلى سالفِ العصور.
وفي مرآةِ البحر, تستعيدُ صورةَ العقبة, وتضحكُ فيما أنت تواسي نفسكَ فثمةَ مسافةٌ تطوِّقُ رغبتكَ للعبورِ إلى الشام, بيدَ أنكَ تنسى, كي لا تبقى فرسيةً سهلةً للحنين.
ورغمَ محاولتكَ أن تناورَ, لتجتازَ عتباتَ العشق, تبقى حائرا, وأنت تشقُّ دروب الدروبِ, والطرقاتِ المتعرِّجةِ لأن مطرح.. تطرحُ الفكرة البكر كما هي, دون تشويهٍ تقتضيهِ الحداثةُ, وروادها!. تنظرُ إلى الوجوهِ, وتقرأُ ثقافاتٍ من مشارب شتى, إلا أنها تجتمعُ في خليطٍ يشبهُ رائحةَ البخور الذي تعبقُ بهِ أسواقُ مطرح, بمحالها, وأزقَّتها, وزوارها الذين ينتشونَ بروائحِ الصندلِ, واللُّبانِ, والمسكِ, والعنبر.
وثمةَ مشاهد تبقى محفورةً في الذاكرة الخناجرُ, السيوفُ, الأواني الفضيةُ والنحاسيةُ, المسلاتُ, النقوش الخشبية, الفخار والملابسُ, وكل ما كانَ تراثاً, تآلفَ في لوحةٍ من الأصالةِ والتأصيلِ, لا شبيه لها إلا في مخطوطاتِ الكتب القديمة. وأنت القادمُ من ربوع الشام, إلى الربع الخالي في الصحراء, ترى ما مضى من تاريخِ العرب الرحل, وترى ذات مشهدٍ خالٍ من الإعداد رجالٌ يتسامرون مساءً على بوابةِ مطرح, يتنادمون, ويتبادلون أطرافَ الكلامِ, وفي الأطرافِ القصيِّةِ, تُحيطُ النسوةُ الأسواقَ, كسوارٍ حول المعصمِ, يبعنَ ما تيسَّرَ من أبخرةٍ, وَتُحَفٍ, ومذهّبات, نثريات, تفترشُ فضاءَ البساطةِ, فتمشي على مهلٍ, لتستعيدَ الذاكرة, إنها بلادُ الشامِ بعبقها, لكن ثمةَ تعديلٌ بسيطٌ تقتضيهِ بالتنوع الذي يتلاشى فيه النمط القاتل في أسواقٍ أخرى. الحرُّ قاتلٌ يمتصُّ الماءَ من الجسد, والبحر يُطفِئُ الظمأَ القاتل, ورغم الوهم الذي تعيشهُ, بأن الصحراءَ تزحفَ إلى روحك, فأنت ترى الأشجار الوارفة الخضراء توزعُ فيءَ ظلالها للمارةِ,..
وللقطط والحمام نصيبٌ من الظلالِ. في المكان الذي سُمِّيَ مطرح, تعودُ إلى أدونيس, وتقرأ: سابقاً, سُمّيت »سوق الظلام«, لاحقاً, غلَب عليها اسم »سوق مطرح«. لماذا, لا تُسمّى, الآن, »سوق الضوء«? خصوصاً أنّ للشمس فيها كُرْسيّاً عالياً: بعضُ قوائمه في المرفأ, تُحيط بها تقاليد البحر, وبعضها في حركة العمل تحيط بها تقاليدُ النهار والليل. سوقٌ – حقلٌ للتاريخ: تتعايشُ المذاهب, القيمُ, الصناعات. وتتعانقُ أنحاءُ الأرض. يُمكن أن تُعطى لهذه السوق أسماءُ أخرى كثيرة »لا شرقيةٌ ولا غربية«: سوق المعنى. سوق الصور. سوق الحكمة. سوق الصداقات. لا تَنْسَ, إذاً, أن تَسْتَحْضِرَ في هذه التسميات ما يقوله أبو حيّان التوحيدي: »الصديقُ آخرُ هو أنت«. تَهيّأْ, إذاً, لكي تُتقِن أسلوب المَوْج, ولكي تغطّ ريشة الكتابة في رحيق الفضاء