محمد بوداي –
الى كل (الثوريين) السوريين المتشدقين بالحرية والديموقراطية؛
الى كل المعارضات (الوطنية) التي ولدت خارج الوطن ودمرت الوطن؛
الى كل من يظن ان الشعب ثار على سوء الاوضاع سلميا، وبعد قمع الدولة للتظاهرات السلمية اضطرت لاستخدام الصواريخ والدبابات للدفاع عن سلمية الثورة؛
اقدم لكم رسما كاريكاتوريا يعود تاريخه الى عام 1958.
الصورة عبارة عن السيد الامريكي يزود التركي بالمال ليورطه بايجاد المفتاح المناسب لفتح سوريا. فيما الاتحاد السوفيتي يسلط الضوء عليهم ويكشف مخططاتهم ضد سوريا.
اوليس هذا مايجري اليوم؟ اوليس الامريكيون هم الذين يدفعون تركيا لايجاد المفتاح المناسب لفتح سوريا؟ اوليس الروس هم الذين كشفوا تآمر الامريكان والاتراك على سوريا وهم من يساعدون سوريا في محنتها؟
والسؤال الان هو: كيف تسنى للرسام ان يتنبأ بهذا الامر قبل 57 سنة؟
هل كان يمتلك قوى فوق طبيعية؟ الجوابك لا. الصورة جاءت من وحي الاحداث التي كانت تجري آنذاك بشان تشكيل حلف بغداد ومقاومة السوريين له. تدل على ان خطة تكليف تركيا باجتياح سوريا وضعت بتلك الحقبة من الزمن وما يجري اليوم هو الحلقة الاخيرة من ذلك المشروع. وحتى نفهم معنى الصورة وحقيقة الدور الامريكي – الاوربي بتوريط تركيا ضد سوريا اعددنا لكم هذه اللمحة التاريخية السريعة.
الظروف التاريخية عندما نشر الكاريكاتور
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج الاتحاد السوفيتي بنظامه الشيوعي منتصرا منها، بدات على الفور الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وكان الصراع على منطقة الشرق الاوسط اهم ملامح تلك الفترة. وبما ان العقيدة الشيوعية قائمة على الفكرة الاممية التي تقف ضد الفكرة القومية وضد الاديان، فقد استغل
المعسكر الغربي ذلك على اتم وجه وبدأ بتنمية روح المشاعر القومية العربية من جهة، بينما شجعت فكرالتطرف الديني من جهة ثانية.
في البداية، نفخ المعسكر الغربي في الدول العربية الروح القومية وحرضهم على تاسيس كيانات سياسية تقوم على اساس الفكر القومي وذلك لتحريضهم ضد الامبراطورية العثمانية التي كانت تقوم على اساس العقيدة الاسلامية. ولا ننسى ان اول حركة قومية عربية تاسست برعاية المخابرات الفرنسية في باريس.
وبعد انهيار الدولة العثمانية، وخوفا من اعادة سيطرتها على الدول العربية عن طريق الدين من جهة، وخوفا من التمدد الشيوعي من جهة اخرى تبنت بريطانيا مشروع النهضة القومية العربية واقامت من اجل تسيير العرب مايسمى اليوم ب" جامعة الدول العربية" لتكون الهيئة التنظيمية تبسط من خلالها سيطرتها على الحكومات العربية.
حقيقة جامعة الدول العربية
جامعة الدول العربية بالاساس دمية انكليزية ابتدعها وزير خارجيتها انتوني ايدن في خطابه الذي القاه بتاريخ 29 أيار عام 1941. وجاء في ذلك الخطاب قوله:
(إن العالم العربى قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التى تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن… وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا فى مساعيهم نحو هذا الهدف ولا ينبغى أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا ويبدو أنه من الطبيعى ومن الحق تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية أيضاً… وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأى خطة تلقى موافقة عامة).
لكن العرب لم يهتموا بذلك الخطاب ولم يتخذوا اية اجراءات تنبئ عن حماسهم لما جاء فيه لعدم ثقتهم بكل ماهو بريطاني. الا ان ايدن كان مهتما بانشاء منظمة تجمع العرب ليسهل عليها ادارتهم من خلالها لذا، فقد اكد كلامه مرة اخرى في خطابه بمجلس العموم البريطاني بتاريخ 24 – شباط 1943 قائلا: ان الحكومة البريطانية ( تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمى إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية). يا سلام، بريطانيا تنظر بعين العطف، والعرب يجب عليهم نيل عطف بريطانيا قبل نيل عطف شعوبهم، فان نالوا عطف السيد البريطاني فان عطف شعوبهم ليس ذي اهمية.
وبعد الخطاب الثاني لايدن بشهر، اكد رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس استعداد الحكومة المصرية لاستطلاع آراء الحكومات العربية فى موضوع الوحدة وعقد مؤتمر لمناقشته.
وبعد لقاءات ومشاورات بين العديد من الاطراف العربية، اجتمعت لجنة تحضيرية من ممثلين عن كل من سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر واليمن (بصفة مراقب) فى الفترة 25/أيلول إلى 7/تشرين الأول/1944 رجحت الاتجاه الداعى إلى وحدة الدول العربية المستقلة بما لا يمس استقلالها وسيادتها. كما استقرت على تسمية الرابطة المجسدة لهذه الوحدة بـ "جامعة الدول العربية". وبذلك، اصبح هذا المولود الانكليزي اداة لتكريس حالة التشرذم القطري الذي خلفته مؤامرة سايكس- بيكو. فالجامعة وجدت لضمان احترام استقلالية الدول العربية وليس للسعي الى الوحدة العربية. وبذلك اصبحت السند القانوني لاسباغ الشرعية على الكيانات القطرية والحفاظ على انظمتها العميلة حتى اشتد عودها، وبعد ذلك، ضربت تلك الدول بميثاق جامعة الدول العربية عرض الحائط وانخرطت بشكل سافر بالتآمر على الدول العربية التي كانت تقود حركة التحرر العربي، والتي تعتبر سوريا حصنها الاخير.
وبوصول جمال عبد الناصر الى السلطة في مصر طرح شعار وحدة الامة العربية، وبوجود حزب البعث الذي يطرح شعار "امة عربية واحدة" في سوريا بدأت فكرة الامة العربية تقلق الدول الطامحة باستعباد العرب لذا، كان لابد لهم من اعادة بعث الدول ذات الفكر الاسلامي المتطرف لضرب فكرة الامة العربية القومية بفكرة الامة الاسلامية وذلك لارباك العرب ونشر الفتنة بينهم وتحريض النزاعات ومن خلال ذلك يسهل عليهم قيادة الدول العربية وابقائها في حظيرة المعسكر الغربي.
الاحلاف الاسلامية
الفكر الديني وخاصة المتطرف منه هو انجع الوسائل لمقاومة الفكر الشيوعي القائم على الالحاد. لذا، فقد اهتم المعسكر الغربي بنشر هذا الفكر واقامة التحالفات الدولية للدول الاسلامية لتكون حواجز منيعة مختومة باختام الله امام تمدد الفكر الشيوعي.
بتاريخ 3 كانون الاول عام 1953 أعلنت باكستان التي استقلت عن الهند بمساعدة بريطانية نفسها دولة اسلامية.
بتاريخ 19 شباط عام 1954 وقع الاتفاق التركي- الباكستاني في محاولة لاقامة نواة لحلف اسلامي لوقف المد الشيوعي.
بتاريخ 22 شبط عام 1954 توجهت باكستان بطلب الى امريكا لتزويدها بالسلاح.
وبنفس اليوم، 22 شباط عام 1954، توجه العراق ايضا الى امريكا بنفس الطلب كشرط للإنضمام الى التحالف التركي – الباكستاني.
بتاريخ 25 شباط عام 1954(بعد ثلاثة ايام فقط من تقديم الطلب) وافقت امريكا على تزويد باكستان بالسلاح لان الامر كان متفقا عليه من قبل.
بتاريخ 12 آذار عام 1954 زار الملك العراقي فيصل باكستان واجرى محادثات سرية.
بتاريخ 14 آذار عام 1954 دعت باكستان الدول العربية والاسلامية للانضمام للتحالف الباكستاني – التركي.
بتاريخ 14 آذار عام 1954 أذاعت واشنطن بأن العراق انضم الى التحالف التركي – الباكستاني مع انكار العراق له.
بتاريخ 23 ايلول عام 1954 زار رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد لندن واقترح على وزير الخارجية البريطاني "سلوين لويد" مشروعا يقتضي بربط مشروع الامن الجماعي للعرب بالعرب، وتزيديهم بالسلاح وتولي تدريبهم.
وافقت بريطانيا على الفور واقترحت على العراق بعقد ميثاق مع تركيا بهذا الصدد ووعدت بان تنضم اليه فيما بعد ايران وباكستان ثم بريطانيا نفسها.
وبذلك تكون بريطانيا قد رفضت ربط الامن العربي بالعرب بل، ربطته بالاسلام وذلك لتضرب به موجة القومية العربية التي كان يقودها جمال عبد الناصر عن طريق جامعة الدول العربية التي كانت بدورها العوبة بريطانية خرجت عن ارادتها.
بتاريخ 10 تشرين الاول عام 1954 زار نوري السعيد انقرة واعلن من هناك ان امن العراق هو من امن تركيا وايران.
واعلنت انقرة انها عازمة على تأمين الدفاع عن المنطقة التي توجد فيها دول جامعة الدول العربية واقامة تعاون عربي – تركي.
وكان هذا الاعلان التركي بمثابة تحدي لدور مصر ومستقبل جامعة الدول العربية.
بتاريخ 14 كانون الثاني عام 1955 قطع العراق علاقاته الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، واصدر المرسوم 16 القاضي بسجن من يروج للمبادئ الشيوعية لمدة خمس سنوات للمدنيين، والمؤبد الذي قد يصل للحكم بالاعدام للعسكريين. وتلاه المرسوم 17 القاضي باسقاط الجنسية العراقية عن الذين تدينهم المحكمة بالشيوعية.
وبذلك انكشف الوجه الحقيقي لهذا التحالف وهو ايقاف المد الثوري الشيوعي في المنطقة العربية.
من اجل هذا الهدف بالذات شجعت امريكا وحلفاؤها موجة الاسلام المتطرف لانها فقط بمثل هذه الايديولوجيا بامكانها ايقاف امتداد الفكر الشيوعي القائم على الالحاد، وكذلك يمكن للفكر الديني المتطرف ان يوقف تيار الفكر القومي العربي التقدمي الذي يتبنى الفكر العلماني. ومانراه اليوم في الربيع العربي هو الثمار التي تم زرعها آنذاك. فهي اليوم العدو اللدود للفكر العلماني التقدمي في البلاد العربية، وهو اكبر عدو يهدد الاتحاد الروسي والصين.
بتاريخ 12 كانون الثاني عام 1955 وصل عدنان مندريس الى بغداد واعلن ان تركيا والعراق قررتا عقد اتفاق عسكري بينهما يرمي الى التعاون وضمان الامن والاستقرار في الشرق الاوسط ودعا العرب الى الانضمام الى التحالف.
بتاريخ 15 كانون الثاني عام 1955 قامت في سوريا مظاهرات ضخمة نظمها حزب البعث احتجاجا على سياسة الاحلاف.
وفي العراق رفضت المعارضة الاتفاق لانه يتعارض مع ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع المشترك.
بتاريخ 24 شباط عام 1955 وقع ميثاق التعاون التركي – العراقي.
بتاريخ 26 شباط عام 1955 صدر بيان رسمي بذلك في كل من انقرة وبغداد.
بتاريخ 4 نيسان عام 1955 انضمت بريطانيا الى الاتفاق التركي – العراقي فاصبح من يومها يسمى ب "حلف بغداد".
بتاريخ 23 ايلول عام 1955 انضمت باكستان الى حلف بغداد.
بتاريخ 3 تشرين الثاني عام 1955 انضمت ايران الى الحلف اي، كما قرر وزير الخارجية البريطاني بالضبط بتاريخ 23 ايلول في اجتماعه مع نوري السعيد.
بقي ان يجبروا مصر وسوريا على الانضمام لحلف بغداد لذا، بدات المؤامرات ضدهم لتغيير انظمتها.
واحست مصر بان هناك مؤامرة ضدها تقودها انكلترا وفرنسا فارادت ابعاد تاثيرهما عن مصر.
بتاريخ 23 تموز عام 1956 قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس.
بتاريخ 29 تشرين الاول عام 1956 بدأ العدوان الثلاثي على مصر. وقد اسرعت سوريا الى مد يد العون لاخوانهم المصريين عسكريا واعلاميا.
في عام 1957 ارادت الدول الغربية معاقبة سوريا على مواقفها القومية فقامت بتحريض تركيا على اجتياح سوريا واسقاط نظامها واستبداه بنظام اخر يقبل الانضمام لحلف بغداد الا ان الانذار المصري لتركيا، ونشر الجيش المصري على الحدود السورية التركية كبح جماح الرغبات التركية مؤقتا فيما استمرت الاستعدادات لذلك سرا.
وهذا يثبت بان كل مانراه اليوم من التصرفات التركية ضد سوريا ومحاولات اسقاط النظام فيها لاستبداله بنظام عميل للغرب جرى التخطيط لها من عشرات السنين.
بتاريخ 22 شباط عام 1958 وقع اتفاق الوحدة بين مصر وسوريا كرد على التهديد المشترك لهما.
وبتاريخ 14 تموز عام 1958 قامت الثورة العراقية وتمت ابادة الاسرة الحاكمة. وسارعت الحكومة العراقية الجديدة الى اعادة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، وانسحبت من الحلف الهاشمي، وانسحبت من منطقة الجنيه الاسترليني البريطاني.وعلى الفور قامت الدول الغربية بتحريض ايران بافتعال المشاكل الحدودية مع العراق اي، تحريض ايران ضد العراق وتحريض تركيا ضد سوريا.
في هذا العام تحديدا رسمت هذه الصورة الكاريكاتورية – موضوع البحث – التي تبدو لنا اليوم وكأنها هبطت علينا من العالم الاخر.
انها صورة كانت تتحدث عن الاوضاع السائدة آنذاك وقد نجح الرسام بايصال الرسالة الينا بامانة.
بقي ان نقول بان العراق انسحب من حلف بغداد بتاريخ 24 اذار عام 1959، وفي عام 1979 انسحبت ايران وانهار حلف بغداد ولكن من اقاموا هذا الحلف اعلنوا عن حلف جديد بقيادة السعودية لنحاربة الارهاب يحمل نفسا طائفيا بغيضا.
هذا الحلف ولد ميتا، ولنا معه حديث اخر بوقت اخر.
مارأي (الثوار والمعارضة الوطنية) السورية الذين قبلوا على انفسهم ان يكونوا ادوات رخيصة لتدمير بلادهم؟
اي مع بدء انهيار حلف بغداد بعد انسحاب العراق منه عام 1958.