الدكتور الشاعر والقاص شادي عمار
ملتقى بانياس الادبي
ازدهرت فنونٌ نثريّة في الأدب الراهن تتسمُ بقصرها والتكثيف، منها القصّ القصير جدّاً والقصيدة الومضة، ومايتفرّع عنهما من أصناف يجمعها الاختزال بل وتؤكّد عليه شرطاً لولوج مدرستها.
وقد ذهبت الدراسات إلى أنّ انتشار الضروب القصيرة بسبب التسارع التقنيّ والاستهلاكي بالتالي لعجلة المجتمعات الإنسانيّة. ولعلّ الحجّة التي تدحض مثل هذا الادعاء هو المثال النثري القديم الأقصر والذي مازال منشراً وهي الأمثال الشعبيّة ومجزوءات الأقوال المأثورة. فالحاجة إلى الاختزال هي إنسانيّةٌ تتحكّمها بالدرجة الأولى الرّغبة في إيصال الفكرة مباشرةً للانتقال إلى مستويات أعلى في الفعل الإنساني.
خاصّةً إذا ماعلمنا أن الحراك الإنساني _وبصفةٍ فريدةٍ_ ينشأ عن الفكرة لاعن الغريزة، فلاتستطيع قيادَ تجمّعٍ إنساني بمحض الغريزة فحسب.
وإذا عدنا إلى بدايات القرن العشرين وأواسطه، مفترضين بداية النزوع الاستهلاكي المعمّم في الجماعة البشريّة اعتباراً من أواخر الألفية الأولى. ممعنين النظر في الفنون الكتابيّة الطويلة التي وسمت الفترة قبل القرن الواحد والعشرين، متحرّين السّبب المعرفيّ قبلَ المجتمعيّ. فسنلاحظ اتصاف الجماعة الإنسانية في هذه الفترة ببزوغ الميل إلى التلقّي العلمي والاهتمام بالناشئة. سنشهد قيام الجامعات الكبرى والمذاهب الأساسية في الفكر الإنساني، والتي بدأت نواتها في العصور الوسيطة إذا لم نقل قبلاً. معتمدين على فكرة أن الدّين، أحد أقدم أشكال العلم الإنساني قد شكّل أطول النصوص النثريّة في تلك الحقبة.
غدا من المعيب ألا يكون المؤلّف طويلاً وشاملاً، ونجد امتداد آثار هذا التقليد حتّى يومنا هذا في الأطروحات الجامعيّة والبحثيّة مثلاً، والتي توزن رصانتها بقدر امتدادها "الكميّ" الذي يؤثر في حالاتٍ كثيرة على النوعي!!
أريد من هنا الشّروع في فكرةٍ هامة، هي أفول هذا الزخم الإنساني تجاه التعليم والقضايا الإنسانيّة الكبرى! نعم نلاحظ ذلك في الانكفاءات الفردية والطائفيّة للجماعة الإنسانية، وبحثها من ميّزاتها القبل قومية حتّى! نواجه حالةً من "الاجتزاء" الإنساني ورغبةً في بناء الذات الفردية لاالجماعيّة. هلاّ انتبهنا إلى ظهور "الميول العدوانية" تجاه الجماعة الإنسانية وخفوت المناداة بالمواطنة والعالميّة لصالح إغلاق الحدود الوطنية ودون الوطنيّة، أي ضمن الحيّ الواحد والبناء نفسه!!
طبعاً يخالف التوجّه الآنف مافُطِر عليه الوعي البشريّ في أقدم عصور تشكّله، وهو الميل إلى التكافل والانضمام، إي إلى التشكّلات الضخمة العدد، وأمام "وعيٍ متراص وكبير" ستغدو الحاجة إلى مظاهر نثرية أطول سياقاً وملحميّة لتمتدّ عبر الجماعة الإنسانية الكبيرة والمتضامنة!!
هذا وهيّأت بدايات التعليم المفضّلة للتفصيل والشّرح الدائب الحاجة أيضاً لكتابات لايعيبها الإسهاب وندرج هنا القصائد الطويلة والدواوين الضخمة كما الروايات والقصص الطويلة.
ملاحظة: شكّلت الرواية استثناءً بسيطاً في قدرتها على الاستمرار رغم النزوع الحاليّ إلى الإيجاز المفرط!!
لكن… وقبل أن نتّهم وسائل الاتصال الحديثة بنكبة الفنون الأدبيّة الطويلة! لنعاين فترة الستينات والسبعينات من القرن العشربن، هذان العقدان الخطيران الممتلئان بآخر ماتعلّقت به الجماعة الإنسانيّة من مثل وقضايا. لينتهيا إلى حالةٍ من الخواء الإنسانيّ الهائل من الفكر المحفّز، وجاءَ "الهروب" إلى التصنيع لملءِ الوقتِ "الإنسانيّ"!!
بيدَأنَّ لكلّ فعلٍ ردة فعل، وقبالةَ هذا الحال من الخواء، تأقلمَت الفنون الأدبية وسواها أيضاً… فعلى صعيد المسرح انتشرت مسرحيّات الفصل الواحد والمونودراما، كما اتّجه الرسم والتصوير إلى أشكال سريالية بضربات سريعة، ونما فنّ الكولاجّ وإعادة التدوير وسواها.
القصّة القصيرة جدّاً والقصيدة الومضة دليلان خطيران على تقوقع العقل البشري، أولنقل تدرّكه إلى حدودٍ دنيا من التفكير بالتالي الانتقال إلى الفعل, ولنرَ وقت تقوم بتأسيس حسابٍ إلكتروني مطالبتك بإدخال شيفرةٍ من أحرفٍ أوأرقام مشوّشة للتأكّدِ من صفتك "البشريّة" في زمنٍ أخذت الآلة الدور الإنساني في التفكير والفعل!!
;