بتاريخ 19 آذار عام 2010 افتتح في العاصة الجورجية تفليس مؤتمر (الامم المغيبه، جرائم دائمه: الشركس وشعوب شمال القفقاس بين الماضي والمستقبل). نظم المؤتمر واشرف عليه مؤسسة جيمس تاون التي تشرف عليها المخابرات المركزية الامريكية وكذلك المدرسة الدولية لدراسة القفقاس في جامعة تبليس الحكومية. وصدر عن المؤتمر البيان التالي: اعلان 21 أيار اليوم الذي احتلت فيه روسيا شمال غرب القفقاس عام 1864 يوما لاحياء ذكرى الابادة الجماعية بحق الشراكسة، واعلان مدينة سوتشي رمزا لعمليات التطهير العرقي التي مارستها روسيا ضدهم. وكعادة اية مؤسسة تشرف عليها امريكا بترويج الاكاذيب والاتهامات بحق روسيا كان كل ماصدر عن هذا المؤتمر عبارة عن سلسلة متواصلة من الاكاذيب. واظن ان الوثائق التي سنقدمها سوف تساعد القارئ على تكوين نظرة صحيحة عما جرى في تلك الحقبة التاريخية من الحرب القفقاسية. في عام 1833 وقعت روسيا والدولة العثمانية اتفاقية ( اونكار اسكيليسي) والتي تخلت الدولة العثمانية بموجبها عن سواحل البحر الاسود لروسيا. هذا الامر لم يعجب انكلترا التي سارعت بارسال عميلها دافيد اوركات الى القفقاس في محاولة لتوحيد القبائل الشركسية المبعثرة واقناعهم بضرورة تشكيل نظام دولة وذلك لاستخدامهم في حربها ضد روسيا من اجل تحقيق مصالح الانكليز. في عام 1835، نشر بيان الامراء الشراكسة ووزع في الدول الاوروبية، الهدف منه كان اقناع الدول الاوربية باهمية تقديم الدعم للشراكسة كحلفاء في حربهم ضد روسيا. والجدير بالذكر ان البيان كتبه ووزعه اوركارت بالذات ولم يكن للشراكسة علم به. في عام 1837 عقد اجتماع لشيوخ القبائل الشركسية لبحث موضوع الاتحاد فيما بينهم. وفي عام 1838 القى اوركارت خطابا في مجلس اللوردات الانكليزي شرح خلاله ضرورة دعم الشراكسة لتشكيل دولة مستقلة لخدمة المصالح الانكليزية. في عام 1841 عقد اجتماع لشيوخ القبائل الشركسية واعلنوا الاتحاد واختاروا لهم محمد امين (مبعوث الشيخ شامل) رئيسا. وانوه الى ان القبائل الشركسية المقصودة هي الشابسوغ والنتوخاي والابزيخ والاوبيخ وهي قبائل لاعلاقة لهم بالاديغة. في عام 1853 اعلنت تركيا وانكلترا وفرنسا الحرب على روسيا. وبالرغم من هزيمة روسيا في هذه الحرب فان الدول المنتصرة التي استغلت جهود الشراكسة ودماءهم لم تهتم على الاطلاق بمصيرهم واكتفت بتوقيع اتفاقية باريس بين الاطراف المتنازعة عام 1856، وانوه الى ان اسم الشراكسة والقفقاسيين الاخرين الذين حاربوا ضد روسيا بدعم من انكلترا وتركيا لم يذكر في المعاهدة على الاطلاق فهم كانوا ضحايا مجانية لتحقيق اهداف الاخرين لااكثر. في عام 1856 بعث الشراكسة برسالة الى السلطان العثماني يخبرونه فيها استعدادهم للانضواء تحت رايته في الحرب المقبلة ضد روسيا. وبنفس الوقت، ارسلوا طلبا الى الحكومة الانكليزية يرجونها ارسال الجيش الانكليزي للدفاع عنهم ضد الروس الذين يقومون بابادتهم. ملاحظة: ما اشبه اليوم بالبارحة، اوليس هذا ماحدث اليوم في سوريا؟ في عام 1857 اصدرت الدولة العثمانية قانون حماية المهاجرين والحفاظ على حقوقهم. وجاء في القانون: ان حياة المهاجرين وممتلكاتهم تقع تحت حماية السلطان نفسه. وانهم معفيون من دفع اية ضرائب على الاراضي التي ستمنح لهم ، وكذلك معفيون من الخدمة الالزامية لمدة 12 سنة. والفت انتباه القارئ الى ان هجرة القفقاسيين الى تركيا لم تكن قد بدأت بعد، ومع ذلك، فتركيا تصدر القوانين التي تنظم مستقبل المهاجرين الذين لم يفكروا بعد بالهجرة. تماما كما فعلت مع السوريين، حيث كانت معسكرات استقبال اللاجئين السوريين قد اعدت قبل الازمة بعدة اشهر. وبالتالي، فالمذنب بهجرة القفقاسيين ليس روسيا بل، تركيا التي كانت تخطط لتهجير القفقاسيين اليها وتصدر القوانين وتخصص الاراضي لهم قبل ان يفكر القفقاسيون بالهجرة وذلك لاستغلالهم في حروبها ضد روسيا. وكرد على هذا التصرف الغيرلائق للدولة العثمانية، اصدرت روسيا بتاريخ 15 حزيران 1857 قرارا سريا قضى بعدم منح القفقاسيين جوازات سفر لاداء فريضة الحج لان القفقاسيين كانوا يستغلون الحج كفرصة للهرب الى تركيا. اي، الحكومة العثمانية تحاول بكل جهدها تهجير القفقاسيين اليها، وروسيا تحاول عرقلة عملية هجرة القفقاسيين. ومع ذلك، فالمتطرفون القفقاسيون يتهمون روسيا بطردهم عنوة من وطنهم. الدعاية التركية لتهجير القفقاسيين حققت نجاحات مذهلة لانها استغلت الدين كستار لها. ففي خريف عام 1859 تقدم سكان قرى باكملها بطلبات للهجرة، ولم ينتظروا جواب الدولة بل، خرجوا الى الطرقات للبحث عن وسائل للوصول الى تركيا. المنطقة الممتدة من البحر الاسود الى بحر كاسبي التهبت مشاعر الهجرة لديها وهم يصرخون (الى تركيا) وكأنهم يهربون من الطاعون. في عام 1860 انشأت تركيا لجنة توطين اللاجئين، وبعدها اخذت الهجرة ابعادا لايمكن السيطرة عليها. وفي محاولة للحد من هجرة القبائل الشركسية والقفقاسية الاخرى الى الدولة العثمانية جاء القيصر الروسي الكسندر الثاني بذاته وعرض عليهم عام 1861 مايلي: انا لم آت اليكم كعدو بل، كصديق يتمنى لكم الخير. انا اريد لشعبكم ان يحافظ على نفسه، ان لايهاجر من ارضه، وان يقبل العيش معنا بسلام ووئام. روسيا دولة عظمى امامها مهمات تاريخية ولا بد لنا من تمتين حدودنا والخروج الى البحر للاتصال مع الدول الاخرى فتجارتنا مع الاخرين ستتم عبر البحر. انا اعرض عليكم ان توافقوا على مد ثلاثة طرق الى البحر الاسود عبر اراضيكم.الى انابه، نوفي رسسيسك،توابسة. والخزينة ستعوض على القرى التي ستمر هذه الطرق من اراضيها. يجب عليكم ان تعترفوا بالحكم الروسي، وانتم لن تفقدوا استقلالكم القومي. ستعيشون وتديرون بلادكم حسب عاداتكم وتحافظون على دينكم ولن نتدخل في شؤونكم الداخلية والاداريون والمحكمة انتم من سيختارهم. في هذه الساعة المصيرية ارجوكم ان تفهموا انه لامفر من ضم القفقاس فاذا قبلتم اقتراحي فان شعبكم سيعيش ويتطور لما فيه الخير. اما اذا رفضتم عرضي هذا فسوف اوجه اوامري للجنرالات لانهاء الحرب في السنوات القليلة القادمة. فكان رد الشراكسة على اقتراح القيصر هو بتوجيه شكوى الى القنصلية الانكليزيه في سوخومي ضد القيصر الروسي في آب عام 1861. فجاء رد الانكليز: هاجروا جميعا الى الدولة العثمانية. اي، روسيا تحاول منع القفقاسيين من الهجرة والانكليز والاتراك يشجعونهم على الهجرة ويقدمون لهم كافة التسهيلات. ومع ذلك، فالمتطرفون يدعون ان روسيا طردتهم بالقوة. في عام 1863 وجهت اللجنة الشركسية في تركيا النداء التالي الى شراكسة القفقاس: الى اؤلئك الذين لايؤمنون بالله ولايتوكلون عليه، ليؤمنوا بالقازاق وبما يفعله قادة الجيش الروسي بهم. اطيعوا اوامر المجلس العظيم واوامرنا ولاتعارضونا. لاتظنوا ان مقاومتكم للجيش الروسي، وشجاعتكم وماتقومون به بسيوفكم وايديكم لم تصل الى اسماع الدول الاخرى. على العكس، صوت امجادكم وصل الى السماء وشهرتكم وصلت الى اقاصي الارض. كل الملوك يمدحون اعمالكم والشعب والجيش الروسي في حالة هلع وخوف وفقر. نحن نعرف ماذا سنفعل بالروس بدعم من الملوك. بعد ذلك، وجهت اللجنة الشركسية رجاء الى الحكومة التركية بمساعدة الشعب الشركسي وقبول خضوع الشراكسة للدولة العثمانية. وقد جاء في الرسالة: طلب من الشعب الشركسي المسلم التعيس الذين يضطهدهم الكفار الروس والمرتدون من القوميات الاخرى. وفيما بعد، انتبهت انكلترا الى ان هجرة القفقاسيين الى تركيا بهذه الكثافة هي بصالح روسيا لانها تقلل من اعداد اعدائها في القفقاس فعملت على ايقاف سيل المهاجرين. اي، ان تهجير القفقاسيين او عدم تهجيرهم كانت تتحكم بها انكلترا وليس روسيا. وهناك الكثير من الادلة التي تثبت بان هجرة القفقاسيين الى تركيا لم يكن بسبب طرد روسيا لهم بل، كان يجري بالاتفاق بين شيوخ القفقاسيين والانكليز والادلة على ذلك كثيرة وعلى سبيل المثال: بعد ان احست انكلترا بخطر هجرة القفقاسيين الى تركيا وقررت ايقافها، ارسل شيوخ الابازة الى القفقاسيين رسالة خطية بواسطة محمد امين وقارار باطر تدعوهم لعدم الخضوع لروسيا وعدم الهجرة الى تركيا. وان الدول الاوربية ستهاجم قريبا روسيا وان جيوش السلطان العثماني ستجري عملية انزال على الشواطئ الشرقية للبحر الاسود وسوف يساعدون كل القوى المعادية لروسيا. وبعد ذلك انضمت تركيا ايضا الى المنادين بوقف هجرة القفقاسيين اليها عبر تخفيض المساعدات المادية للمهاجرين الجدد. ومن المعروف ان تركيا كانت تقدم لكل مهاجر 2 بيسترا يوميا، ومبلغ 860 بيسترا مساعدة دفعة واحدة لكل اسرة. وهذا يعني ان تركيا كانت تحرض القفقاسيين على اللجوء اليها لخدمة مصالحها وليس شفقة عليهم او حماية لهم من الروس، وعندما تعارضت الهجرة مع اهدافها اوقفتها. روسيا لم تكن بالاصل موافقة على هجرة القفقاسيين الى تركيا وقد اصدرت قوانين جديدة لتقليص هجرتهم. منها قانون يقضي بمنع الهجرة الجماعية الى تركيا منعا باتا، وقضى القانون ايضا بالنفي الى سيبيريا بحق القفقاسيين الذي يتقدمون بطلبات هجرة الى السلطات التركية. مما سبق نستنتج ان روسيا اصدرت قوانين لمنع هجرة القفقاسيين وعاقبت المحرضين على الهجرة. وبالمقابل، وقف الشراكسة ضد هذه القوانين وشنوا حملة اعلامية في الصحافة الاجنبية متهمين روسيا بمخالفة حقوق الانسان مطالبين اياها بالسماح لهم بالهجرة الى دولة اسلامية. فعن اي تهجير قسري وطرد جماعي مارسته روسيا بحق القفقاسيين يتكلم المتطرفون؟ ونتيجة الشكاوى الشركسية الدائمة للمؤسسات الحقوقية الاوربية بحق روسيا التي تمنعهم من حقهم بالهجرة صرح القيصر عام 1888 بمايلي: ان اصرار البعض على الهجرة لا يشكل خطرا على مصالح روسيا بل، على العكس فمن مصلحة روسيا التخلص من تلك العناصر المشاغبة. القيصر الروسي ادلى بهذا التصريح بسبب رغبة اهالي قرية ( حجي موكوف) بالهجرة الى تركيا. ويدعي المتطرفون ان الاحوال الاقتصادية السيئة واضطهاد الروس وممارسة سياسة الابادة ضد القفقاسيين هي السبب برغبتهم بالهجرة الى تركيا واصرارهم على ذلك. ولكن الوثائق التاريخية تكذب هذه الادعاءات بشكل كامل. وعلى سبيل المثال تعالوا نطلع على الواقع المعيشي لقرية حجي موكوف بالذات التي ابدت رغبتها بالهجرة الى تركيا. عدد سكان القرية: 3431 نسمة. عدد الذكور: 1813 نسمة اي، 53% من عدد السكان. عدد الاناث: 1618 نسمة اي، 47% من عدد السكان. عدد الاطفال من سن 1-5 سنوات: 592 نسمة. عدد الاطفال من سن 5-10 سنوات 661 نسمة. اي ان عدد الاطفال من سن 1-10 سنوات بلغ 1253 نسمة اي، 65%. هذه النسبة العالية من المواليد تدل على انهم لم يتعرضوا لاضطهاد وان احوالهم المادية كانت جيدة جدا والوضع الصحي كان على افضل وجه. وبذلك تسقط كل الادعاءات التي تحاول ان تلصق بروسيا لاتهامها بالابادة والتجويع والطرد القسري بحق القفقاسيين. وانوه الى ان نسبة الرجال كانت اعلى بنسبة 3% عن نسبة النساء، وهذا يعني انهم لم يخوضوا حربا مع احد وان روسيا لم تقتل رجالهم لانه في البلاد التي تقوم فيها الحروب تنخفض نسبة الرجال عن النساء بشكل كبير، ولو كان الاديغة خاضوا مثل هذه الحروب دفاعا عن الوطن لمدة مائة عام كما يدعون لانعكس ذلك على توازن نسبة الرجال الى نسبة عدد النساء. وانوه الى ان هذه النسب موجودة بكل القرى الاديغية دون استثناء. وفي عام 1893 اخبرت السلطات الروسية القفقاسيين بما يلي: لا يطردكم احد من روسيا، ولن نمنع احدا من الهجرة. وعلى كل من يرغب بالهجرة ان يتقدم بطلب الى السلطات المختصة وذلك عن نفسه وعائلته فقط. لن نسمح بالتحريض على الهجرة ولا بتقديم جداول للهجرة الجماعية ومن يخالف هذه التعليمات سيجري توقيفه لينال جزاءه. وبالنسبة للطلبات العائلية المقدمة فاننا سوف نستجوب كل شخص على حدى فان كان بين افراد العائلة شخص لايريد الهجرة فسوف يبقى في روسيا. روسيا التزمت بتعهداتها وارسلت المسؤولين الحكوميين الى العائلات التي تقدمت بطلبات للهجرة واضطلعت على احوالهم واستفسرت عن اسباب رغبتهم بالهجرة وعرضت عليهم حل مشاكلهم وتقديم المساعدات الممكنة ليبقوا في روسيا. وعلى سبيل المثال: في عام 1902 حضر المسؤولون عن دائرة بطال باشينسكي لاقناع القرشاي بعدم الهجرة. المسؤولون الروس وعدوهم باعطائهم اراضي اضافية، بتسوية اوضاعهم المعاشية، بتخفيف الضرائب عنهم. ولكن القرشاي قالوا: نشكر الحكومة الروسية على طيبتها وكرمها ونتمنى منها ان تنفذ لنا رغبة واحدة فقط وهي السماح لنا بالهجرة الى تركيا المسلمة. جد والدي كان واحدا من هؤلاء الذين هاجروا علم 1902، رافضا كل المقترحات الروسية. وفي عام 1911 عاد الى القفقاس للحصول على حصته من ميراث والده ولم يجد اية ممانعة من السلطات الروسية. وللاسف، اندلعت الحرب العالمية الاولى واغلقت الحدود ولم يستطع العودة الى اسرته التي تركها في سوريا ومات ودفن في اراضي آل بوداي. وبعد مرور 86 سنة، عندما اضطررت لاسباب طارئة لمغادرة سوريا عدت انا واولادي الى روسيا ومازلت اعيش فيها. وانصح من يريد العودة للقفقاس ان يتصرف مثلي وباب روسيا مفتوح لمن يطرقها بالطرق القانونية، وهو مغلق وسيبقى مغلقا لاؤلئك الذين يحاولون ابتزاز روسيا عبر اتهامها باضطهاد القفقاسيين وطردهم من وطنهم وتزوير التاريخ وتحريض الجيل الجديد ضد روسيا.
للبحث تتمة