رأفت حرب
إذا ما أعدنا مشاهدة كل خطابات السيد نصرالله منذ تولّيه مسؤولية سياسية حتى الآن، لن نلاحظ استعمال لغة قاسية فيها نوع من الشتمِ إلا ضد الصهاينة. هؤلاء فقط، كان السيد نصرالله يصفهم دومًا، كجزءٍ من الحرب النفسية، بالأغبياء والحمقى، لكنه لم يرمِ أحدًا من رموز الأنظمة العربية أو حتى الغربية بمثل هذا الكلام.
المفارقة التي من المفيد أن نلحظها هنا، هي أنّ السيد نصرالله حين يصف مسؤولًا عربيًا اليوم بـ “المعتوه”، فإنّ النظام الذي ينتمي إليه هذا المسؤول بدأ يعلن تنسيقه وعلاقته مع الصهاينة.
ليس مجرّد حدثٍ معيّن أو خلافٍ سياسي عادي يقف خلف هذه الكلمة، بل إنّ صورة سوداء تكوّنت حول وزير الخارجية السعودية عادل الجبير عند الكثير من المتابعين، حتى وصل الأمر إلى أن قال السيّدُ ما قال.
في ما يلي عرضٌ لبعض العوامل التي رسمت هذه الصورة السوداء:
أولًا، لِنَعُد إلى ما قبل تعيينه وزيرًا للخارجية. عادل الجبير كان سفير بلاده في واشنطن، وكان من المعروف أنّه من أكثر الذين عملوا على دفع الإدارة الأميركية الحالية لشنّ ضربة عسكرية على دمشق، مع كل ما يمكن أن يُنتج هذا الأمر من كوارث قد تصل إلى حرب عالمية ثالثة يُباد فيها الملايين من البشر.
سرّب أكثر من مصدر صحفيٍّ أنّ الجبير قال قبيل العرض الروسي بتسليم السلاح الكيميائي السوري، إنّ أوباما أصبح وأخيرًا جاهزًا لقرار ضرب النظام في سوريا. إذًا هذا الرجل قادم من خلفية صدامية، وهو كان يريد أن يدفع دول المنطقة والعالم إلى مواجهة يعلم الله وحده متى وكيف تنتهي.
ثانيًا، نحن في لبنان لن ننسى، كيف أنّ الجبير ربط قرارًا قضائيًا للمحكمة العسكرية بإخلاء سبيل الوزير السابق ميشال سماحة بإلغاء الهبة العسكرية السعودية للجيش اللبناني. بذلك يقول الجبير، إنّ بلاده سوف تتخلّف عن إلتزامٍ قدمتهُ، وتتوقف عن دعم جيش يواجه تهديدات خطيرة من الجنوب من قبَل “إسرائيل”، ومن الشرق من التكفيريين، لأنها ليست موافِقة على قرار قضائي يُعتبر أمرًا داخليًا لبنانيًا لا يجوز لأي جهة خارجية أن تتدخل فيه، كما أنه لا ينطوي على تأثير إستراتيجي حتى يُقال إنّ السعودية تهدف من وراء قرارها الضغطَ من أجل الحفاظ على مصالحها.
كان يمكن للجبير أن يبرر إلغاء الصفقة بأي شيء آخر، لأنّ أي حجة أخرى ستكون أكثر تناسبًا وأقلّ استفزازًا، والجميع كان يعلم أنّ الهبة تم تجميدها وصارت حبرًا على ورق قبل أشهر عديدة من إخلاء سبيل سماحة، والذي للمفارقة تم الحكم عليه بالسجن بعدما أُخلِيَ سبيله لفترة وجيزة.
ثالثًا، إستعمل الوزير السعودي تعابير ربما تشكل سابقة في العمل الدبلوماسي. هو لم يكتفِ بالقول “على الأسد أن يرحل” كما فعل المسؤولون الأميركيون دائمًا، مع أنّ في ذلك محاولة واضحة لمصادرة قرار الشعب السوري، بل كان يقول “على الأسد أن يرحل، إما بالمفاوضات أو بالقتال!”.
هذا الأسلوب الوقح لم يسقط سهوًا من الجبير، بل دأب على تكراره في كل مؤتمر صحفي يعلّق خلاله على الأزمة السورية. من أعطى الجبير هذا الحق بتحديد مصير الرئيس السوري بشار الأسد؟ منذ متى يخرج دبلوماسيٌّ ليتكلّم بهذه اللهجة عن انخراط بلاده في الحرب؟ يُقال في الدبلوماسية، لا تسأل دبلوماسيًا عن الحرب. أما الجبير فقد جعل من نفسه أشبه بمتحدث عسكري.
ختم هذا الوزير “معجزاته” الدبلوماسية مؤخرًا، بوعدٍ علنيٍّ، أمام وسائل الإعلام، لروسيا الدولة العظمى، بإعطائها حصةً في الشرق الأوسط مقابل أن تتخلى عن الرئيس الأسد. يعلم كل من يتابع الشأن السوري، أنّ الأمير القطري المتنازل عن العرش حمد آل ثاني، عرض عشرات مليارات الدولارات على الكرملين مقابل التخلّي عن الرئيس الأسد، لكنه لم ينجح بتغيير الموقف الروسي. تسلّم بعدها الأمير بندر بن سلطان الملف السوري، وعرض على الرئيس بوتين صفقات عسكرية وإقتصادية ضخمة، فحصل على الجواب نفسه. ثم أعاد محمد بن سلمان ما فعله بندر بن سلطان، ولم يحقق أي خرق.
فما هي الفائدة بحق السماء، من أن يقوم الجبير بالعرض على روسيا علنًا أن تبيع موقفها في الشأن السوري مقابل حصة في الشرق الأوسط؟ أليس في الأمر إهانة لدولة كبيرة مثل روسيا؟ حسنًا، نحن نعلم أنّ التاريخ حافل بمثل هذه الصفقات، لكن هذا النوع من الصفقات كان يبقى سرّيًا ولا يُكشف عنه الغطاء إلّا بعد عشرات السنين، ليس بهذه الطريقة العلنية الساذجة والمتهوّرة.
كما أنّ تهكّم السيد نصرالله كان في محلّه، فمن قال إنّ الشرق الأوسط ملكٌ لنظام آل سعود حتى يقسّموه حصصًا بين الشرق والغرب؟ ثم عن أي حصة يتكلّم هذا الوزير؟ عن حصة في السعودية التي بدأت تقع في العجز مع انخفاض أسعار النفط مثلًا؟ أم أنه يريد منّا نحن، فضلًا عن القادة الروس، أن نصدق بأنّ الولايات المتحدة ستقبل مشاركة روسيا في النفوذ داخل منطقة الخليج؟
مُدهِشٌ سلوك هذا الوزير بكل المقاييس، وهو يمعن بضرب صورة النظام الذي ينتمي إليه في كثير من المواقف حول قضايا مفصلية، يضرب قواعد الدبلوماسية فيهدد ويتوعد وكأنه يحكم العالمَ بيمينه، هذه صفات جوهرية لمن يمكن أن نصفه بـ”المعتوه”.
وكالة نيوز