الاستاذ المحامي محمد محسن كتب :
..هــل سيتــخلى الغـــــــرب عن سيــــــاسة العــولــــــــــــــــمة ؟
……….هـــل سيــدخل على التشكــــيلة الرأسمــالية بعــض التعـــــــديل ؟
……….هـــل يعـــاني الغــــرب من أزمـــة بنيــــوية ستنال من هيمنته ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعلم الجميع أن النظام الرأسمالي العالمي ، يقوم على عدة مبادئ أهمها : مبدأ " البراغماتية " النفعية ـــ أي المصلحة ـــ، وأن لا صداقات دائمة ولا عدوات دائمة ، وأن الرأسمال جبان ، ولا وطن له ، وأن بنية الرأسمالية تستدعي الحروب ، أي لا يمكن للرأسمالية أن تعيش بدون حروب ، كما وتعتمد على نظرية العولمة التي تسعى لتنميط العالم ، والحفاظ على الأسواق العالمية مفتوحة أمامها ، في الذهاب وفي الاياب ، في الذهاب تسرق المواد الأولية ، والطاقات البشرية القادرة على الانتاج العلمي ، من الشعوب المستعمرة اقتصادياً ، أو سياسياً واقتصادياً في آن ، وفي الاياب تحتكر الاسواق العالمية الملزمة باستيراد وبيع منتجاتها الصناعية ، والمواد الأولية التي سرقتها بعد أن صنعتها .
كل هذا مدرك ولا جديد فيه ، ولكن على ما يبدو أن هذه المبادئ ، قد تزحزحت ولم تعد معتمدة بشكل حرفي من قبل قادة أوروبا وأمريكا الحاليين ، بل هناك حيدان كبير في بعض هذه المبادئ .
.
فهل هذا الحيدان أو التخلي ينبئ عن تغير بنيوي حاد ؟
وما هو سببه ؟ ولماذا ؟ وهل هذا التغيير متسارعاً ؟ وما سيترتب على ذلك من نتائج على الدول الرأسمالية ذاتها وعلى دول العالم ؟
أول مؤشر يسعفنا للدخول في هذا المبحث : " صدق القول كما أنتم يولى عليكم " فلو استعرضنا واقع الرؤساء الغربيين ، من " ترامب " الأمريكي ، و" هولند " الفرنسي ، " وتريزة " البريطانية ، وعلى منوالهم نقيس قادة جميع الدول الغربية الآن ، لخرجنا بنتيجة تؤكد أنه عندما تعيش الدولة واقعاً صحياً وجيداً في كل المناحي الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، لابد وأن تفرز قياداتها التي تتماثل ، وتحاكي ، وتوازي ، ذلك الواقع الصحي ، لأنها ابنته وتحمل جميع خصائصه ومورثاته ، وتعكس قراراتها ذلك الواقع وتعبر عنه تعبيراً صادقاً ومتوائماً مع متطلبات المجتمع الذي تمثله .
.
وقياساً على هذا لو نظرنا إلى القيادات الأوروبية السابقة التي أفرزتها المراحل الزمنية السابقة ، وأجرينا مقارنه سريعة مع القيادات التي أفرزها ويفرزها الواقع الأوروبي الحالي ، لوجدنا فوارق ومؤشرات تفيدنا في ما نرمي إليه ، فديغول رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة بطل تحرير الجزائر ، وتشرشل رئيس وزراء بريطانيا بطل الحرب العالمية الثانية ، وكندي صاحب قرار فك الحصار عن كوبا بعد مجابهة قضية الصواريخ مع الاتحاد السوفييتي ، هؤلاء القادة مثلوا أوروبا وأمريكا في مراحل استثنائية ، ومع ذلك تمكنوا من اتخاذ قرارات ذات بعد استراتيجي خطير أعطت منعكسات تاريخية على جميع الأصعدة الداخلية بالنسبة لدولهم وخارجياً بالنسبة لدول العالم ، شكلت تلك القرارات مفاصل وعلامات بالغة الخطورة والتأثير على مجرى التاريخ ، كما شكلت علامات فارقة في العلاقات الدولية .
فلو قارنا بين تلك القرارات والمواقف التي اتخذها أولئك القادة التاريخيون ، في منعطفات تاريخية خطيرة ، وبين القرارات التي يتخذها القادة الأوروبيون الحاليون ، لحل ومواجهة القضايا المطروحة والخطيرة اليوم ، لوجدنا فارقاً يكاد يشكل فالقاً بين زمنين ، ويكاد مقدار الفرق بين قرارات أولئك وقرارات هؤلاء ، يكاد يعطينا مؤشراً صادقاً عن الواقع الأوروبي المتردي اليوم ، الذي لا يبشر بمستقبل أوروبي أو أمريكي مشجع .
.
فالأدوار التي يلعبها رؤساء الغرب اليوم في هذه المرحلة التاريخية الحساسة والمفصلية بكل المعايير ، يجب أن تكون مبنية على المبادئ والأسس التي تطبع التشكيلة الرأسمالية ، في قراءاتهم للواقع الاقتصادي ، والعسكري ، والسياسي ، الحالي والتعامل معه ، ولكن قراءاتهم وتعاملهم مع الواقع الراهن ينمان عن كثير من الارتجال والانفعال ، إلى الحد الذي يعتبر خروجاً عن المبادئ الأساسية التي تعتمدها التشكيلة الرأسمالية الأوروبية ، والتي ذكرنا بعضها ليس على سبيل الحصر ، أعتقد أنني لا ابالغ إذا قلت أن قرارات القادة الأوروبيين الراهنة ، تجاه الحروب المتفجرة الآن في الشرق الأوسط ، واعتمادهم على الحركات الارهابية لتطويع الدول التي لم تقدم الولاء والطاعة لهم ، تنم عن غباء يغلفه الكثير من الحقد والتشفي ، ولا يتوافق ومصلحة الدول الأوربية ذاتها حاضراً ومستقبلاً ، ولأن الارهاب آفة ومرض عضال ومعد وسينتقل إلى الدول الراعية له حتماً .
.
فبدلاً من التعاون مع الدول القادرة على مواجهة الارهاب وتحجيمه على الأقل تمهيداً لسحقه كسورية ، نراهم يتمادون في أحقادهم ، ويقومون عن سابق تصميم وتصور ، بتسليح ، وتشجيع ، وتمويل ، الحركات الارهابية الواسعة الانتشار ، ومواكبتها بحملات اعلامية مضللة ، غايتها الاستمرار في تضليل شعوبها ، كل هذه السياسات الارتجالية والخطيرة على المصالح الغربية الآنية والمستقبلية ، يجعلنا نثق أن هذه القيادات ، لا تتعامل بفهم مع المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها الرأسمالية العالمية ، في الأمور الصعبة والمفصلية التي تتطلب منهم فهم الواقع الراهن واستشراف المستقبل القريب وليس البعيد ، لذلك فإنني أشك بقدرة قادة هذا الزمان على فهم الأخطار التي تحيط بهم ، فكيف باتخاذ القرارات الاستراتيجية الضرورية والمطلوبة ، فكأنهم لا يستخدمون أي مبدأ من المبادئ التي ذكرناها سابقاً ، بل يعتمدون مبادئ الحقد والتشفي والقرارات التي تنم عن ذلك من ادراك لمصالحهم السياسية والاقتصادية .
.
هل هناك سياسي عاقل في الدنيا لا يدرك أن الارهاب الذي صنَعُوه ، بات يشكل خطراً على كل شعوب الأرض ، بل على كل الانجازات الحضارية التي أنتجتها الانسانية ، لأنه إن ساد ـــ ولن يسود ـــ سيعيد البشرية إلى عهد الجاهلية الأولى ، لذلك كان الموقف العاقل يقتضي التعاون مع الدول والقوى التي تقوم وتستطيع مواجهته .
هذه اسئلة جد هامة وبالإجابة عليها ، يمكن أن نستشرف آفاق المستقبل المتغير . وستكون المؤشرات التي سنعتمدها هي دليلنا في التحليل والاجابة .
المؤشرات الداخلية التي يمكن أن نراها جلية في الدول الرأسمالية ذاتها ، العالم الرأسمالي الغربي الذي كان ولا يزال استعمارياً ، قد بات عالماً عتيقاً ، لذلك فان الصفة التي أطلقت على أوروبا " بالقارة العجوز " تملك الكثير من الحقيقة والموضوعية ، وتكاد تشكل هذه الصفة عنواناً جلياً للواقع الأوروبي بشكل عام ،
لأن الأسواق الأوروبية قد تقلصت بشكل كبير ولافت ، وذلك لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، ـــ العدو ولكن بثوب حليف ـــ والتي زاحمتها على جميع الأسواق في العالم ، وبخاصة على أسواق الشرق الأوسط ، التي كانت رهينة للإمبراطوريتين : البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ، والتي كانت أسواقها تمتد من الصين حت مصر ، والفرنسية التي تسيطر على الباقي .
.
كما أنه من المهم ادراك أن الصين باتت تستثمر ما مقداره مائتين وخمس وعشرون ملياراً من الدولارات خارج أراضيها عام / 2016 /، بزيادة تصل إلى النصف عن عام / 2015 / ، وهذا مؤشر ضخم على تراجع الاستثمارات الغربية لصالح الاستثمارات الصينية ، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك روسيا والهند ودول البركس وغيرها .
ويمكن التذكير بان اية أسواق تخرج من تحت سيطرة الطاغوت الغربي ، ستضيق الخناق على المجالات الحيوية لأوروبا وحتى أمريكا ، حتى أن هذه الحرب القائمة الآن ، ستؤدي حتماً إلى خسرانها للأسواق التي يتم تدميرها ، وحتى اسواق الحلفاء والتابعين في المنطقة لأنها ستخسر الحرب ، وهذا يعتبر المؤشر الرئيس على تأكيد انحسارها ، كما ويدلل بشكل قاطع على أن أوروبا الضيقة المساحة والتي تعيش على الصناعة والتجارة ، كلما فقدت سوقاً يزداد حصارها ، ويقل دخلها وهذا يستدعي بالضرورة تفككها ، كاتحاد وحتى كدول . حتى أن سياسة ترامب في أمريكا تقوم على اعادة الشركات الأمريكية إلى الداخل الأمريكي ، وانتهاج سياسة حمائية ، ليواجه الغزو الصيني لأسواقه ، وهذه السياسة يمكن اعتبارها مؤشراً قوياً على تخلي ترامب عن مفهوم العولمة بإطارها العام ، والتي تعتبر المبدأ الأهم الذي تعتمده التشكيلة الرأسمالية ، التي تقوم على السوق المفتوح ، والتجارة الحرة ، وأي تراجع أو تخل عن هذين المبدأين يوجه ضربة قوية للرأسمالية العالمية .
.
لذلك فان جميع المؤشرات تؤكد إلى انكماش قادم في المجالات الحيوية للغرب وسيتمدد على حسابها دول القطب الجديد برئاسة روسيا والصين ، والتي ستتيح مجالاً أوسع للأسواق المحلية أيضاً التي ستكون قد خرجت من تحت عباءة الرأسمال الغربي المتوحش .
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الواقع العالمي الجديد ، يُنبئنا أن السيطرة السياسية وبالتالي الاقتصادية ، للرأسمال الغربي بما فيها أمريكا ، أنه سيؤدي إلى انحراف الجنس البشري عن مساره التطوري ذو البعد الانساني ، وافقاره مادياً ، وأخلاقياً ، حتى واستلابه عاطفياً
لكن الواقع الجديد سيفسح في المجال لتوسع القطب العالمي الشرقي بقيادة روسيا والصين ، هذا القطب الذي يزاوج بين النظام الاقتصادي الرأسمالي ، المطعم برأسمالية الدولة ، ذات الخلفية الاشتراكية ، والبعد الروحي الشرقي .
لذلك قد يدفع القطب العالمي الجديد ( قد يدفع ) العالم للبحث عن أهداف عليا ترتقي فيها الانسانية ، إلى مجتمع يتدرج نحو العدالة والحرية ، والتي يكون هدفها رفاه الانسان .
……………ليس حلماً لأنه الطريق الوحيد لإنقاذ الانسانية ………..