بقلم: ناجي أمّهز
عادةً، لا أشاهد التلفاز منذ سنوات طويلة جدًا، حيث أفضّل القراءة والمطالعة على أي نشاط آخر. أغفو كل ليلة وآخر ما تراه عيناي هي كلمات أطالعها على أنغام النبرة والتقمص الفكري.
لكن في إحدى المناسبات، تساءلت عن عظمة فيلم “العراب” بجزأيه الأول والثاني، والذي يُعتبر لدى البعض تحفة سينمائية خالدة. لم أجد هذه العظمة في السيناريو أو الرواية، خاصةً في زمنٍ لم تكن فيه التكنولوجيا كالكاميرات المنتشرة في كل مكان، ولم يكن الوصول إلى الآخرين سهلاً وسريعًا كما هو اليوم. بمعنى أوضح، في تلك الحقبة كان الشخص يرتكب الجريمة في وضح النهار، وقد يحتاج الكشف عنه إلى جهد بدني وعقلي واستقصائي كبير جدًا. أما اليوم، في عصر التواصل الاجتماعي وكاميرات المراقبة، فالأمر غاية في السهولة، حيث يمكن لصورة واحدة أن تكشف حتى عن “نمرة حذائه” وأحب وجبات الطعام لديه، وأماكن تجوله.
كثيرون يتوقفون عند بعض العبارات في الفيلم، مثل: “إنهم سيرسلون أقرب الناس إليك، هو الخائن.” هذه العبارة، التي نطق بها الأب الروحي عندما كان يعدّ ابنه الصغير ليحل محله، تُعتبر مميزة بالنسبة للبعض، لكنها تبدو أقل من عادية إذا نُظر إليها من زاوية علم الاجتماع.
اليوم، لو كان العراب بيننا، لقال له: “إنهم سيرسلون لك أقرب الناس إليك، فلا تقتله، بل حاول تعويضه عن الثمن الذي دفعوه له.” لأنه في هذا الزمن البائس، إن قتلت كل خائن، لن تجد من يشاركك الطعام، حتى من أقرب الناس إليك.
لقد تغير كل شيء، والرواية التي تموت مع الوقت ليست رواية خالدة. فالخلود يكمن في الكلمات التي لا تموت. حتى الآلهة في الكتب السماوية خاطبت الناس بالرمز والإيحاء، لأنها تدرك أن الوضوح ينتهي مع التقدم، وما يؤمن به الإنسان اليوم قد ينقلب غدًا.
لذلك، السيطرة المطلقة تكمن في تقديم مادة للعقل كـ”السكريات البسيطة” التي تجعله يدمن البحث عنها.
أما السيناريو، فهو ببساطة يحكي قصة رجل أحمق خسر كل شيء في النهاية. طرد زوجته، قتل شقيقه، ولم يسامح صديق والده. حتى الأب الروحي انتقم لمقتل عائلته بطعن رجل عجوز في سنواته الأخيرة. ألم يكن من الأفضل تركه يعيش في عجزه، بدلًا من هذه النهاية البسيطة؟
في حياتي، تعرفت على الكثير من النخب التي تمتلك الأموال والسلطة، لكنهم كانوا يتمنون الشفاء ولا يجدونه، كما يتمنون الموت ولا يقترب منهم.
كل هذه الفزلكات في الحياة لا تفيد عند لحظة الحقيقة. فمن جمع المال والسلطة والمناصب على حساب لحظات إنسان بسيط سيدفع الثمن لاحقًا. سيمر شريط ذكرياته أمامه، ولن تنفعه المهدئات العصبية ولا المخدرات للأوجاع، لأن الألم يكون في العقل وفي الروح.
شاهدت والدي، العامل البسيط، كيف توفاه الله مبتسمًا بعد أن دخل في غيبوبة استمرت أسبوعًا. وفي المقابل، رأيت بعض الأغنياء يتمسكون بالحياة، والموت يكاد يشطرهم إلى نصفين، يعيشون جحيمًا في انتظار لحظاتهم الأخيرة.
يمكنك التذاكي على إنسان، استغلاله، خداعه، أو حتى سرقة أمواله، لكن إن كنت تظن أنك تتذاكى على القوة الكونية، فأنت أحمق الأغبياء. هذه القوة ستجبرك على دفع الثمن هنا، قبل انتقالك للعيش مع ذكرياتك المسمومة.
القوي المنتصر المطمئن هو من يعطي ويحب ويتحدث بصدق، لانه يخاف يوما عبوسا كان شره مستطيرا، وهذا اليوم لا داعي ان يكون بعد الموت بل ربما هو في هذه الحياة.
لا أعلم الغاية الحقيقية التي أراد فيلم “العراب” إيصالها. هل كان الهدف توضيح أن المال، السلطة، والحراسة المشددة لا تضمن النجاة في النهاية، لأنك تواجه قوى أكبر منك؟ إذا كان الأمر كذلك، لكان من الأنسب أن تُختتم القصة بمشهد للعراب وهو يبكي وحيدًا، محطمًا تحت وطأة أفعاله، بدلًا من أن تُسدل الستارة على مسرح الجريمة دون أن نعرف مصير الجاني.
العقل الإنساني بطبيعته يبحث عن العدالة، سواء كانت دنيوية أو سماوية. عندما لا يرى نهاية واضحة للمجرم، يتيه بين فكرتين متناقضتين: الأولى، أن الظالم قد انتصر، مما يغذي شعورًا قاتمًا بعدم جدوى الأخلاق. والثانية، أن عدالة السماء ستأخذ مجراها، ولكنه يعجز عن تصور كيف يمكن أن يحدث ذلك.
الإنسان، في جوهره، يرفض مشهد الألم في الآخرين، لأنه يميل بطبيعته إلى الحياة وإلى رؤية السعادة تعم الجميع. وهنا يظهر التناقض العميق: كيف يمكن لفيلم كهذا أن يلهم أملًا بالعدالة، بينما يترك نهايته مفتوحة، وكأن الظلم يمكن أن يُطوى دون عقاب؟
لا شك أن الفيلم كمنتج سينمائي من حيث الإخراج والتمثيل كان رائعًا. التعابير الصوتية والوجهية جعلت كلمات عادية تبدو مدوية وعظيمة. لكن حين نقيّم السيناريو، نجده تافهًا للغاية، خاصة إذا قارناه بواقع “المافيات السياسية” التي تحكم العالم اليوم.
حسنة الفيلم الوحيدة كانت في إظهاره لبعض الحقائق الخفية. أشار إلى أن الشخصية اليهودية هي التي تدير المؤامرات الكبرى في القصة، كما أظهر أن أمريكا بلد الديمقراطية والقانون، حتى في تعاملها مع المافيات التي صُوّرت كصناعة تأتي من الخارج، وليس من داخل الشعب الأمريكي نفسه.
أعتقد أن العقل الذي روّج لهذا الفيلم أراد إيصال رسالة مفادها أن الخارجين عن القانون هم من أصول إيطالية أو تركية. لكن، بعد نصف قرن، يجب أن ندرك أن من يقف خلف هذه الوحوش ليس سوى العقل اليهودي الذي يسيطر على كل شيء.
على ذكر الشخصيات التاريخية، يمكن أن نستشهد بمحمد علي، الذي ولد في مدينة “قولة” باليونان -وكانت إقليمًا عثمانيًا آنذاك- وجاء إلى مصر في مارس/آذار 1801 مع حامية عثمانية قوامها 4 آلاف جندي لطرد الفرنسيين. كان ضابطًا غير نظامي، لا يتحدث العربية، وكان أميًا، ولم يكن له كفيل في الدولة العثمانية أو من الأشراف. ورغم ذلك، استطاع بدهائه أن يؤسس لدولة قوية، مما يوضح أن العقل والتخطيط هما الأساس.
لقد قرأت قبل عقود رواية عن علي باشا المصري، الذي كان يقول لزواره حين يستشهدون بكتاب الأمير لميكافيلي: “أغلقوا الكتاب، والله إنني أملك من الدهاء أكثر مما فيه.”
في النهاية، أستطيع القول بثقة إنني أستطيع كتابة سيناريو أقوى وأعمق من هذا الفيلم، مع حبكة معقدة وأحداث مثيرة. أكاد أجزم أنها لن تموت.
فيلم “العراب”: الكثير من الضجيج حول شيء بسيط جدًا.