بقلم الدكتور : أديب عارف
لا شك في أن الأنفلونزا الفكرية التي تجتاح العالم العربي منذ مطلع العام الماضي , لم تقتصر عدواها فقط على الكثير من بسطاء الناس , ذوي الثقافة المحدودة , و لا المتوسطة , بل أصابت الكثيرين من أولئك الذين يفترض أنهم محصنّون بفكر و تفكيرٍ صحيحين كنّا نعتقد أنهم سيكونون بمثابة "الأنتيبيوتك"الفكري, الذي يحمي المجتمع من هذا النوع من الأمراض, و هذا النوع من التلوث الثقافي و المعرفي الذي يبدو أنه ممنهج و لم يأت من فراغ أو بفعل الظروف و المتغيرات الطبيعية. و المثير للشك دائماً , أن هذا "الأنتيبيوتك "الفكري العربي , في كل مرة يثبت فشله الذريع أمام هذه الأنفلونزا التي باتت تهاجم عالمنا العربي كلما دعت مصنّعيها الحاجة لذلك .
لا بل أنها تتجدد و تتطور باستمرار أمام الصادّات الفكرية العربية البدائية , التي لم تعد تباع حتى في الصيدليات البيطرية الآسيوية ناهيك عن الأوروبية , مما يعرض كبيرنا قبل صغيرنا أن يكون هدفاً سهلا للإصابة المزمنة إن لم تكن قاتلة, بأمراض فكرية قد لا يحتاج علاجها في أماكن معينة من العالم أكثر من حقنة ثقافية بسيطة, أو بضع كبسولات مقويّة للشعور الوطني و الإحساس بالمسؤولية تجاه كل قول أو فعل نقوم به بخصوص ما يجري على أرض الوطن. ومن هنا –و أنا لا أحصر الموضوع بالأزمة السورية فقط – أقول : أين أصحاب الفكر و المفكرين العرب .؟
أين فلاسفتنا و جهابذة الفكر و الرأي و المنطق و الثقافة ؟؟ أين العلماء و أصحاب الشهادات العالية ؟؟ الغالبية الساحقة ممن نراهم على شاشات التلفزة من أولئك المحللين السياسيين المرتزقة -بعد أن أصبح التحليل السياسي من المهن العالية المردود و المطلوبة من كل شاشات التلفزة و أصبح (شغلة الما ألو شغلة) _ هم بمعظمهم :
1- موظفون سابقون عند الأنظمة التي يثورون عليها الآن بعد أن سرقوا ما سرقوا و نهبوا ما نهبوا و فسدوا و أفسدوا ,ثم هربوا إلى خارج بلدانهم ,ليصبحوا ثوّاراً ميامين و يطلقوا العنان لألسنتهم القذرة بعد أن لبسوا عباءة الثورة و قناع الثوار , ظنّاً منهم أنهم بمجرد أن يهاجموا الأنظمة التي كانوا يوما هم أعمدة فسادها سيتحولون بقدرة قادر إلى ثوّار من طراز لينين و غيفارا و مانديلا و غيرهم من شرفاء الثوار الذين غيّروا تاريخ بلدانهم بصدقهم و شرفهم و إيمانهم بمبادئهم , لا لأنهم وجدوا في الثورة مخرجا لأزماتهم القضائية الجنائية و مكاناً لانتقامهم الشخصي و رداً لاعتبارهم من الأنظمة التي أصبحت فاسدة(بنظرهم ) فقط بعد أن لفظتهم و لاحقتهم بدعاوى اختلاس المال العام أو غيرها من الجرائم المشينة .
2- فقراء الذمة و السمعة و الثقافة ممن يسهل شراؤهم دائما عند الحاجة في الأزمات السياسية و غيرها و الذين هم أشبه بعمال "سوق جمعة سياسي" حيث يأتون كل يوم جمعة ليجلسون على رصيف "الجزيرة" أو غيرها من القنوات الإعلامية مع رفوش و فؤوس ألسنتهم منتظرين أول زبون ليقدمون له خدماتهم مقابل مبلغ من المال . ( مع احترامي الشديد لعمال سوق الجمعة الشرفاء الذين يكسبون لقمتهم بشرف)
3- قلّة قليلة من الشرفاء أصحاب العقول و الرأي و الثقافة ,الذين نادراً ما يظهرون على شاشات طرفي النزاع بسبب رفضهم لبيع عقولهم و ذممهم – بنفس الطريقة التي باع بها عزمي بشارة سمعته للجزيرة في برنامج علي الظفيري الشهير – و هم و إن يظهرونهم أحياناً هنا و هناك ,فليس إلا كي يعطِ ظهورهم شيئ من المصداقية على الكَمّ الهائل من الكذب و التضليل و النفاق الذي يروّجون له على هذه القناة الإعلامية أو غيرها .
لكن المثير للاستغراب هو أن البؤرة الحقيقية لهذه الإنفلونزة الفكرية ,باتت معروفة للجميع ,فمن نفس هذه البؤرة ظهرت أنفلونزة الطيور و انفلونزة الخنازير و جنون البقر و آخرها كانت انفلونزة جنون البشر التي صُدّرَت إلينا مباشرةً بعد تصنيعها في المختبرات السياسية الأمروأوروبية المختصة بتصنيع الأمراض الفكرية و الثقافية للعرب الذين لم يفقدوا فقط مناعتهم بشكل شبه تام ضد أسهل أنواع الأمراض بل أنهم سرعان ما يذهبون إلى من صدّر لهم المرض لاستجداء الترياق , تماما كما يستجدون الصادّات الحيوية (الأنتبيوتك) لأمراضهم الجسدية.
أخيراً
أقترح على وزارات التعليم الشاهق في العالم العربي ,إنشاء كلية جديدة في جامعاتهم تسمى "كلية الطب السياسي" فعسى أساتذتها و طلابها ينجحون في اختراع " انتبيوتك سياسي" يُجنب الأمة من خطر الأنفلونزة السياسية التي تعصف بها منذ مطلع العام الماضي ؟