شكوى بومة:
ذات ليلةٍ ريفيّةٍ شديدةِ الوطأة منَ الشَّوْبِ والسّآمةِ ، وزحمةِ الاسمنت والوجوه وحكايا البشر . .
هجَجتُ من بين أوراقي ودفاتري طافراً في الدّروب ، أسابقُ ذريراتِ الضّوءِ الرّهيفةِ في سويعات الفجر الأولى إلى حُضن الوديان الغائرةِ في محاجر الجبالِ الغافية على كتف البحر ، والمُتحفّزةِ أبداً لعناقِ الشّمس كلّما همّتْ بالنّهوض من مخدعها من فراش الأفق المُوشّى بألوان الجلال والجمال !
وما لبثتُ أنْ جاورتُ عينَ ماءٍ محليّةٍ تنفنفُ قطراتِ سلسلها العذب من بين شفاهِ الصّخر الملساء ، فتتساقطُ على حصباء الوادي الصافية كحبّات النور ، فيُسمعُ لسقوطها لحناً سماوياً يمتزجُ بأغاريد مختلف أشكال الطيور المنتشرة في هاتيك البقعة من الفردوس .!
وبعد مرور لحظاتٍ كأنها الدهرُ ؛ نسيتُ في كينونة غبطتها ولطافة موحيات مشاعرها ما كنتُ غارقاً للتّوّ فيه منذ ساعاتٍ وسط جهنّم الاسمنت وشَوب تموز . .!
وإذا ببومةٍ تسترسلُ في نعيبها ، فتُرجّعُ جنباتُ الوادي أصداءَ شكواها لتُضفي على المشهدِ برمّته المزيدَ من مشاعر الهيبة والجلال . . وإذا بي أتأملُها جائمةً في جوفِ شجرة بلوطٍ وبجوارها بلبلٌ غرّيدٌ يرتّلُ معزوفتَه التي تنزّلتْ عليه بها ملائكةُ الرّحمن . . وأراهُ وقد قطعَ وصلتَه الرّبّانيّة مُحيّياً البومةَ قائلاً:
عمتِ صباحاً يا أختي البومة المُنشغلة عن أعراس الضياء بالصلاة منفردةً في سكينة الليل البهيم ؛ فما خطبكِ ونحن الذين ما عهدناكِ تردّدين صلواتكِ معنا في هذا الوقت المبكر من موكب النور الطليق !؟
فتردُّ البومةُ بزيادةٍ من النعيب قائلةً:
لقد سئمتُ يا صاحبي العيشَ بين الخرائب قابَ قوسين من ثرثرةِ البشر وضوضائهم ، فها هُم وقد باتوا يزاحمونني عل النّعيب في وسط الخراب ؛ إلا أنّ نعيبهم يختلفُ بما لا يُقاس عن صلاتي في جوف الليل ؛ وحتى صلواتهم تراهم وقد حشوها بالنّعيب . . نعيب سخافاتهم وشكواهم وتذمّرهم ممّا زرعتْ أيديهم وجنتْ قلوبهم . . والغريبُ العجيب يا أخي البلبل أنّني لم أعد أحتملُ سماعهم وهم يردّدون بفظاظةٍ بلا وجلٍ أو شعورٍ بالعار والحياء: (كمثلِ البومِ لا ينعبُ إلا في الخراب !!)
كتاب (مملكة الإنسان)