رامز محمود محمد
وذات مساء مُشَرَبٍ بصمت الأشياء ، وهدوء العناصر ، وسكينة النّفوس السّابحة في عتمة الأفكار ؛ قصدتُ إلى نفس ضيفي فاستثرتُ ماءَها السّاكِنَ الصّافي ، وحرّكتُه لأمتّعَ خاطِري ببعض تموّجاته السّاحرة ، ولِتأنسَ نفسي بشيءٍ من صفاء عكَرِه ، إذا ما استسلمَ للصّفاء من جديد ؛ حينها بادرتُ إلى إعدادِ منقوع شراب (المتّةِ) وزيّنتُ مائدة شرابي بطبقين من شرائح الليمون ، والزّبيب مزركشين بغرائب النقوش البديعة ، وعجائب الرسوم المدهشة من شتّى أشكال وألوان الفصول في السنة .
ثمُ دعوتُه إلى التفضّل بمشاركتي حفلةَ شربي مُمتناً لحضوره ، ومُعتذراً له مُسبقَاً على كثرة ضوضائي وتبلبلَ أفكاري . فقلتُ:
ليتَ بيتي في قلب الطبيعة – يا سيّدي – إذاً لكانت جِلستنا أكثر بهجةً وأشد سِحراً وجمالاً.
فاعتدل ضيفي في جلسته دون أنْ يفقد بساطته وقال:
الحكيمُ لا يحتاج لأنْ يسافر إلى الأشياء ، إنما يُحضرُ الأشياء بين يديه .
إنْ كنت حكيماً تجوّلتَ في الطبيعة كلّها ، من غير أنْ تمدّ رأسك من نافذة بيتك ؛ وكلّما ابتعدّت أكثر كلّما قلّ نصيبُك منَ الحكمة !
ثمّ ضمّ كأس (المتّة) بين أصابع يده كمن يضمّ عزيزاً على قلبه ، وحمله بحنوّ وشغفٍ راشفاً من قصبته بعذوبة رشفتَه الأولى ، وواضعاً في فمه حبّة زبيبٍ قائلاً:
أتعرفُ – يا صاحبي – ما أجمل ما في هذا الشراب الكريم !؟
قلتُ : إنْ هو إلا عادةٌ تكفل لمُدمنها شُرب أكبر قدرٍ من الماء الساخن النّافع في أوقات ، والضّار في أوقاتٍ عداها !
فردّ عليّ من فوره متداركاً إجابتي العفويّة:
ما من ضارٍ أو نافِعٍ في الحياة ؛ ثمّة غايةٍ سامية من وراء كلّ شيء ، والحكيمُ لا يفعل الأشياء ليقطفَ نفعها ويتجنّب ضررها ، إنّما يقرّبُها ليصادقها في الحالين . ثمّ قال:
أجمل ما في هذا الشراب يا صاحبي ، أنه يهدرُ الماء والحرارة ، وهما مهدوران في الطبيعة والكون ؛ إنّما لغاية تسمو فوقَ نفعهما وضررهما . . فلنهدرْ ماءَ هذا الشراب والحرارة التي أنضجته إنّما بحكمة ومحبة .
قلتُ: أمَا لو خالطتَ النّاسَ يا سيّدي وجاملتَهم ؛ إذاً لأفادوا من أنسك وحكمتك ومحبّتك الشيءَ الكثير!؟
فأجابني:
المجاملة . . آهٍ للنّاس واصطلاحاتهم الكلامية ؛ إنما المجاملة نفاقٌ يضعُ على وجهه قِناع التعقّل والمودّة.
ثمّ أردفَ متنهّداً:
لقد علّمتُ النّاسَ – يا صاحبي – فلعنوني ، ومشيتُ معهم لأدلّهم على الطّريق فلعنتُ نفسي .
لذا ؛ فقد أحبَبتُهم ، وتركتُهم ينصرفون إلى أعمالهم راضين وشاكرين .
كتاب الدكتور الذي يحمل عنوان (الملعون)