هل سيموت تيار المستقبل وصارت ايامه معدودة؟؟ وهل يريد "الحئيئة" ام الحقيبة؟؟
بقلم: نارام سرجون
من فضائل المال أنه – على سوئه – فانه كاشف للقلب والروح .. فلاتوجد قوة أخلاق توقف سطوة المال في قلب انسان يحب المال .. ففي يوم من الأيام انتصرت 30 قطعة فضية على ابن الاله وعلى محبة السيد المسيح للناس وكان انتصار الفضة في الحقيقة انتصارا على الاله .. وعندما وقعت فتنة علي ومعاوية اشترى المال جنودا لمعاوية من العسل ولم يبال بعض المسلمين بأن يحملوا رأس حفيد نبيهم على الرماح طالما أنهم سيأكلون من عسل الخليفة .. والأمر لم يتغير منذ أن انتصر الانسان للفضة على ابن الآب والروح القدس .. وكانت التجربة السورية خير مثال على قوة الفضة والذهب عندما سقط الدين بكل حصونه وانهارت قلاع الثقافة أمام المال السعودي وتحول الماركسيون الى أئمة مساجد كانوا يوما في ربطات عنق فخلعوها ليضعوها كالعمائم على رؤوسهم .. وأبدت الكتب التقدمية ندمها على ماقالته في ايام الطيش الثوري العلمانية في سبيل التقدم وعادت الى المساجد لتتعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب وعلى ايدي شيوخ الكتّاب .. وقام آخرون بشنق كلماتهم ثأرا مما فعلته في الماضي وقام البعض الآخر بطي جسدها الفولاذي ووأدها حية لأنها صارت محرجة عندما يقال بأنها اعتدت على العدالة وحكم الالهة الكائنة في الرياض .. ومحا كثيرون بالممحاة كل رصاصهم القديم الذي أطلقوه على الملوك والامراء وأهل اللحى .. وصاروا يطنبون في مديح الحزم وملوك الحزم والعزم ..
اليوم ووفق هذا التنقل المرن بين الايديولوجيات يعيش تيار المستقبل أعمق أزمة مصيرية منذ تأسيسه .. وهي ليست أزمة أيديولوجية ولاأخلاقية لأن التيار بالاساس لم يقم على أساس اخلاقي ولاايديولوجي بل قام على أسس واعتبارات سياسية هشة ومؤقتة .. فرغم كل الثقل النوعي لكلمات الحرية و"الاستئلال والحئيئة" التي تزخر بها أدبياته ومحطاته وتغص بها حناجر منظّريه فانه اليوم أمام اختبار قاس جدا لن يصمد فيه .. فهو أمام اختيار بين شعاراته وبين جيوبه وخزائنه .. وسيكون تيار المستقبل أمام امتحان عسير جدا .. لأنه يريد أن يتصرف كحزب عقائدي حر كما أراد ان يقنعنا عندما صدع رؤوسنا طوال عقدين بأنه قام لملء الفراغ العقائدي الانساني في المجتمع بسبب جنوح حزب الله الى تعريض سيادة لبنان لخطر النفوذ الايراني ..
وعلى تيار "المستأبل" اليوم أن يختار بين "الاستئلال" وبين الوصاية السعودية .. وهو الذي كان قد نفخ عضلاته في ساحات لبنان رفضا لمبدأ الوصاية السورية .. وطلبا "للحئيئة" ..
اليوم تبدو الوصاية السعودية الجلية في طريقة تجاهل اعلان وضع سعدو الحريري فجة جدا .. وهي لاتكترث لمن يطلب الحئيئة حول مصير سعدو .. ويعاني أهل المستأبل من القلق العميق (أو الألأ العميء) بسبب الأزمة المحتملة لأن مايحدث يكشف حقيقة لايريد أهل الحئيئة أن تظهر .. وهي أن كل حزب المستقبل هو حزب صنع بالمال وليس بالعقيدة .. وكل أدبياته ومنطلقاته النظرية كتبت في مكاتب المخابرات السعودية التي كانت تريد أن توجد لنفسها موطئ قدم في لبنان بالاستيلاء على جمهور السنة الذي كان رأس الحربة القومية والتحررية في لبنان .. فحولته عبر حيلة صناعة تيار المستقبل الى تيار يشبه السلطة الفلسطينية التي يشرف عليها دايتون وينتظر موظفوها رواتبهم بدل أن ينتظروا تحرير فلسطين .. وتحول بعض مثقفي ومنظري تيار المستقبل في دفاعهم عن نظريات المملكة السعودية وعدائها لايران وسورية وحزب الله الى هئية الأمر بالمعروف اللبنانية التي تضرب الناس اذا لم يلتزموا بقراراتها ووجهات نظرها .. والسبب طبعا هو حقائب المال التي تصلهم من الرياض فردا فردا .. وقد روى الرئيس اللبناني اميل لحود طريقة الرشوة السعودية عندما وصلته في اليوم الأول لتسلمه قيادة الجيش اللبناني حقيبة من السعودية فيها نصف مليون دولار ستدفع له شهريا من أجل ماسمي انفاقها على الجيش وشراء الولاءات كما يشاء .. وطبعا تلك الهدية المتواضعة التي رفضها اميل لحود بعنف قبلها أعضاء تيار المستقبل وغيرهم من قيادات 14 آذار دون استثناء وكانت الحقائب والهدايا الملكية الشهرية المتخمة بالدولارات تصلهم حتى الشهر الماضي .. حتى بنيت عظام تيار المستقبل وقويت ورضعت بول البعير حتى ثمل الجميع وحملت أنفاسهم رائحة بول البعير ..
واليوم يقف هؤلاء جميعا أمام اختبار .. اما الحقيبة واما الحقيقة .. أو بعبارة أدق .. اما (الحئيبة واما الحئيئة) .. فهم يعرفون أن لحم اكتافهم ليس من سعد الحريري بل من حقيبة آل سعود التي تملأ حقيبة الحريري .. واذا قررت السعودية الاستغناء عن سعدو الحريري فان اعتراضهم على ذلك من أجل العقائدية والأخلاقية الحزبية سيعني أنهم سيخسرون الحقيبة من أجل الحئيئة .. فهل سيطالبون بتوقف نظام الوصاية السعودية على تيار المستأبل في لبنان ويطالبون العالم باظهار الحئيئة ويخرجون في مظاهرات يرفعون فيها شعار (بدنا الحئيئة) .. أم انهم سيرون في سعدو زعيما ضعيفا لايستحق أن يخسروا الحقيبة في سبيل الحقيقة ..؟؟
مايتعرض له تيار المستقبل هو هزة عنيفة لبناء كرتوني وهي خطرة على كيانه بنفس مستوى الخطر الذي تتعرض له السعودية من هذه المواجهة مع الذات .. فالسعودية تواجه نفسها اليوم كما يواجه تيار المستقبل نفسه في محاكمة معقدة بين الأنانية والعقائدية ..
وأنا عندما أتابع مأزق المستقبل في كل ساعة حيرة يمر فيها منظروه هذه الايام أحس انني أقرأ مسرحية الكاتب السويسري فريدريش دورينمات في مسرحية (زيارة السيدة العجوز) التي يعرض فيها مأزق الأنانية الانسانية أمام الاخلاق والمبادئ .. ففي هذه المسرحية تفلس مدينة غوللن ويصاب أهلها بالافلاس والفقر بعد توقف مصانعها ولايبدو أي أمل من النجاة من الفقر والجوع سوى بالسيدة كلارا التي تملك المليارات والتي تصل اليها بالقطار ومعها نعش فارغ وتتبرع لها بمليار كامل رغم ان ماتحتاجه البلدة هو مئة مليون فقط .. ولكن السيدة كلارا تشترط قبل منح الهبة أن تقدم البلدة العدالة لها لأن البلدة يوما طردت كلارا في شبابها وحكمت عليها بشهادة زور انها آثمة وباعت شرفها وصارت لها ابنة من الزنا رغم ان كلارا كانت ضحية أحد سكان البلدة المسمى المراوغين واسمه ألفريد الذي راودها عن نفسها بقصة حب لاهية عابرة .. وطلبت كلارا فقط ان تقتل البلدة المدعو ألفريد الذي تسبب لها بالشقاء مقابل المال .. ويرفض سكان البلدة الطلب فورا لأنهم متحضرون ومبدئيون ولن يقتلوا من أجل المال .. وقد صفق الناس كثيرا لخطبة العمدة العصماء التي رفضت الرشوة مقابل الموقف الحضاري والانساني .. ولكن الناس منذ ذلك اليوم صاروا يتصرفون وكانهم حصلوا على المليار وصارت هناك حالة انفاق ورفاهية بالديون منتشرة لأن الجميع يعلم ان المال موجود وسيتم تحصيله ان عاجلا او آجلا بمجرد بيع رأس ألفريد للسيدة العجوز كلارا .. وأخيرا تقرر البلدة التي غرقت في الرفاهية والديون واعتادت الرخاء والاعتماد المطلق على المال القادم والذي لم تقدر على توفيره .. تقرر أن العدالة واجبة ولايجب ان تتأخر أكثر من ذلك .. فيقدم سكان البلدة على اعدام ألفريد ارضاء للسيدة العجوز .. أمام عينيها .. بذريعة التمسك بتحقيق العدالة .. ولكن الحقيقة هي التمسك بالمال والأنانية التي غلبت العقائد والشعارات التي رفعوها ضد القتل والانتقام .. ويتبين للناس لاحقا ان مصانعهم كانت قد أفلست لأن السيدة كلارا خططت لذلك بشرائها واقفالها لتفلس ويفلس معها الناس كي تأتي اليهم وتبتزهم وتنتقم من ألفريد بقتله من قبل الناس الذين حموه .. فتضعه في النعش التي جاءت به ..
السيدة كلارا تتمثل بالسعودية التي اشترت مصانع جمهور أهل السنة منذ القرن الماضي وجعلتها تفلس بعد ان افرغتها من حركات التحرر والتقدم والمشاعر القومية وبنت تيار المستقبل المفلس ثم أعطت المال لسكان المدينة بشرط ان يفعلوا لها ماتريد عندما تريد .. فصار اناس يقاتلون من أجل السعودية ولكن تحت ذريعة انهم يحمون الحرية والاستئلال وأهل السنة .. ولسبب ما قررت السيدة العجوز السعودية أن تضع تيار المستقبل أمام خيار بين الانتصار للحئيئة وبين الانتصار لجيوبهم ..
تيار المستقبل ان وجد ان بقاء الجيوب مليئة بدولارات الحقيبة يقتضي ان يقتلوا سعد الحريري وآل الحريري فسيتم قتلهم ببرود ماديا او معنويا .. ويقدم هذا التيار الدليل على أنه تيار مسبق الصنع وليس فيه من العقائدية شيء ولولا المال لما كان له مقعد في البرلمان .. ولكن لعبة السيدة العجوز السعودية قد تتغير ربما في أنها بعدها التوتر في المشهد اللبناني ستطلق سراح سعدو الحريري بعد أن تعيد انتاجه وتسويقه بهذه المسرحية على أنه بطل الاستئلال الثاني لأن تياره رفض الوصاية السعودية وانتصر لعقيدته وللحئيئة .. ويستطيع أن يستعيد جمهوره ويحشده بعصبية أشد بحجة أنه زعيم حر لايبيع ولايباع وأنه يتزعم تيارا مشحونا بالعقيدة .. فيلملم شتات جمهوره الذي كان فقد الايمان بهذا الولد المغناج الذي يتأرجح بين مراكز القوى الاقليمية والدولية والسعودية .. فمرة يتهم سورية ومرة يستغفرها .. ومرة يخلع جاكيته ويقسم انه لن يعود الا من مطار دمشق ولكنه يعود من مطار بيروت .. وقد تكون هذه هي الطريقة المسرحية التي يعاد فيها ترميم تيار المستقبل المتآكل وتنظيفه من لوثاته الأخلاقية والاتهامات بالارتهان للسعودية .. فكل ماحولنا مسارح لجمهور الربيع العربي الذي لايزال يظن أن مايحدث على خشبة المسرح هو حقيقة وليس تمثيليات من تمثيليات اردوغان الى تمثيليات محاربة الفساد لملك الحزم ..
وقد كان حزب الله حصيفا في ان يعلن انه معني بحرية الحريري من منطلق عقائدي بحت ولكنه ايضا من منطلق انه يسحب من يد الحريري – ان عاد – سلاحا قد يشهره هو أو بديل الحريري في وجهه ان رد حزب الله بعصبية وانفعال على بيان الاستقالة وهجوم الحريري عليه من السعودية .. وبالتالي فانه افرغ أي خطوة للسعودية على التراجع أو التقدم ..
اما ان كانت السعودية قد حسمت أمرها وتريد تغيير ناطورها في لبنان فان هذا سيعني أن تيار المستقبل قد انتهى وتفكك بين من يريد الحقيبة ومن يريد الحئيئة .. وان هناك "مستقبلا "جديدا يناسب المرحلة السعودية الحالية التي تغير بيادقها وخيولها وحميرها ونياقها وتريد اطلاق تيارات جديدة تقدر على تحشيد الناس أكثر مما يقدر عليه الحريري الذي استهلك أقصى ماعنده وتبين انه لم يعد لديه مايقدمه وانه ورقة احترقت وباتت ايامه معدودة .. وهناك من هو أكثر قدرة منه على اقناع الناس ..
من يدري .. فربما صارت ايام الحريري معدودة .. وربما صارت ايام تيار المستقبل معدودة .. وربما صارت ايام محمد بن سلمان معدودة .. ولايبقى في الشرق الا رجل كانت ايامه معدودة في حسابات الغرب .. ولكنه كان يعرف ان السيدة العجوز التي اشترت كل الأحزاب وكل الشخصيات وكل الكتب وكل الصحف وكل الكتاب وكل السياسيين وكل الصحفيين وكل المثقفين وكل الأغاني والالحان والروايات والقصص .. تستطيع شراء الايام لمن اشترتهم بالحقائب .. ولكنها لاتستطيع أن تعد ايام لمن لابيبع نفسه ولاوطنه ولاشعبه ولاكرامة سورية .. فعنده الحقيقة .. ومن كانت في قلبه الحقيقة فانه لايكترث بأهل الحئيئة ولا بأهل الحقيبة ..