مادونا عسكر/ لبنان
"من لا يحبّ لا يعرف الله، لأنّ الله محبّة"
تقول العبارات الصّوفيّة إنّ المحبّة هي آخر درجات العلم وأوّل درجات المعرفة. وبين العلم والمعرفة فرق من حيث أنّ العلم مرتبط بالعقل، وأمّا المعرفة فبالقلب. ولعلّ القدّيس يوحنّا الإنجيليّ في رسالته الأولى أراد أن يعطي تعريفاً نهائيّاً للمعرفة المرتبطة بالله المحبّة أو بقول آخر إنّ المعرفة لا تكون إلّا بالمحبّة، طريق الخلاص. ويمهّد القدّيس يوحنّا لهذا التّعريف بقوله: "أيّها الأحبّاء، لنحبّ بعضنا بعضاً، لأنّ المحبّة هي من الله، وكلّ من يحبّ فقد ولد من الله ويعرف الله". (1يوحنا 7:4) وبذلك يرسم دائرة الحبّ الإلهيّ الّتي يدور في فلكها الإنسان بل الجماعة المُحبّة. فتأتي عبارة (لنحبّ بعضنا بعضاً) مرآة تعكس الحبّ الإلهيّ (لأنّ المحبّة هي من الله). فيكون الحبّ بذلك فعلاً إلهيّاً يبلّغ الإنسان أخيه الإنسان من جهة، ويبلّغه الله من جهة أخرى. إذاً فالمعرفة لله لا يمكن أن تكون خارج معرفة الإنسان للإنسان استناداً إلى قول القدّيس يوحنّا (لنحبّ بعضنا بعضاً). ولمّا كانت المحبّة من الله، ولمّا كانت المحبّة هي الله أتى الحبّ فعلاً إراديّاً (لنحبّ) لا شعوراً عفويّاً أو عاطفة متناقضة بل إنّه قرار واضح يتّخذه الإنسان ليعرف الله. وبهذا القرار الفاعل، أيّ المحبّة، يولد الإنسان من الله، أي أنّه يصبح شريكاً في دائرة الحبّ الإلهيّ. ومتى كان شريكاً فسيعرف الله.
ليس المراد بالمعرفة هنا المعرفة التّامّة، لأنّ إدراك الله عمليّة اكتشاف مستمرّة لتدفّق النّور والحبّ الإلهيّين. وإنّما مراد القول إنّ المعرفة المرادفة للمحبّة سبيل لمعرفة الله. وبهذا يكشف القدّيس يوحنّا عن اختبار عميق وخاصّ مفاده أنّ الله محبّة وبالمحبّة يُعرف. والمحبّة وإن كانت معرفة قلبيّة فهي لا تُلغي العقل. وإنّما هي المحبّة الّتي تشمل الكلّ. ما كتبه القدّيس يوحنّا ينمّ عن إدراك عقليّ بالغ الوعي لكنّه إدراك العقل المستنير بفعل المحبّة. كما أنّه ينمّ عن إدراك قلبيّ شديد الصّفاء بفعل الانفتاح على هذه المحبّة. وبالتّالي فالمحبّة نور يتدفّق، فإذا ما انفتح عليه الإنسان أحبَّ فَعرفَ. وكلّ معرفة خارج إطار المحبّة تبقى ناقصة ومحدودة وغير دالّة على السّبيل إلى الله. وكلّ معرفة ترتكز على العقل وحده تخلو من الطّمأنينة وتبقى معرفة مربكة لأنّها خلت من المحبّة. بمعنى آخر، إنّ الاستدلال بالماديّات للوصول إلى أدلّة قاطعة تمكّن الإنسان من معرفة الله غير مجدية. ليس لأنّ الله غير ماديّ وحسب، وليس لأنّ الطّبيعة الإلهيّة مختلفة عن الطّبيعة الإنسانيّة فقط، بل لأنّ المحبّة تُعرف بالمحبّة. المنظور يُدرك المنظور وأمّا اللّامنظور فيُدرك باللّامنظور. واللّامنظور من الإنسان هو قلبه، أي النّفخة الإلهيّة الكامنة فيه (ونفخ فيه نسمة حياة) (تكوين 7:2). وتلك هي المعرفة القلبيّة، وهي الأنفاس الإلهيّة في الإنسان وبهذه الأنفاس يدرك الله. ويذهب القدّيس يوحنّا بتعريف المعرفة إلى أنّها رؤية الله فيقول: "الله لم ينظره أحد قط. إن أحبّ بعضنا بعضاً، فالله يثبت فينا، ومحبّته كمُلت فينا." (1 يوحنّا 12:4) من يحبّ يعرف الله ويراه، وبهذا نفهم سيرة حياة المُحبّين، الغرباء في العالم، المتجذّرين في وطنهم الأمّ، القلب الإلهيّ. ونعي سبب ترفّعهم عن كلّ شيء، ونظرتهم المختلفة للأمور.
المُحبّون يرون أنفسهم في السّماء، في قلب الله وعلى هذا الأساس يحيون. لقد بلغوا ما بلغوه من معرفة بالمحبّة فاستحالت حياتهم رحلة حبّ يتمدّد أفقيّاً ليملأ الأرض ويرتقي عموديّاً نحو السّماء. هم الّذين أحبّوا فعرفوا، واستناروا فأناروا، وعكسوا صورة الله مؤثّرين في العالم فكريّاً وروحيّاً. من قال إنّه يعرف الله وهو لا يُحبّ فهو لم يعرفه قط، فلا يوثق بمعرفة من لم يحبّ.