لقد أصبح الاقتصاد العالمي مثل المريض في غرفة الإنعاش، الكل يحاول أن يساعده، وما يكاد إن يخرج الاقتصاد العالمي وأسواقه الشديدة التذبذب منذ نحو خمس سنوات من غرفة الإنعاش إلا وتراه يعود إليها بشكل أسوء، على الرغم من محاولة جميع البنوك المركزية العالمية (الأطباء) وصناديق دولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي (طبيب التخدير) محاولة إنعاشه ولو لفترة من الزمن حتى تلوح بالأفق حلول طويلة الأمد وقابلة للتطبيق، إلى أن جاء الاقتصاديون والماليون والسياسيون الأميركان بما يسمى ويُعرف الآن بالهاوية المالية والمزمع البدء بتطبيقها قريباً. الهاوية المالية الأميركية أو ما يُمكن تعريفه بالأثر الاقتصادي لعدد من القوانين المالية والضريبية التي (إذا لم تتغير) يمكن أن تؤدي إلى حُزمة من الزيادات الهائلة للضرائب الاتحادية وخفض الإنفاق والتي من المقرر أن تُصبح نافذة المفعول في نهاية عام 2012 وأوائل عام 2013 وينجم عنها خفض كبير في العجز في الميزانية الاتحادية الأميركية لعام 2013.
وقد لايصدق القراء في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني من ضائقة مالية حقيقية، بمعنى أنها يمكن أن تقود أقوى وأغنى دولة في العالم إلى كارثة اقتصادية تنتظر اقتصادها خلف ما يصطلح الأميركان عليه بـ ‘حافة الهاوية المالية’.
والحقيقة فإن الأميركان، إدارة وشعباً، يترقبون الوصول إلى ‘حافة الهاوية’ أعلاه خلال أسابيع، لتختلط لديهم مشاعر الابتهاج بأعياد الشكر والميلاد والسنة الجديدة بمشاعر الخوف والقلق اللذين يحبطان أسباب تفاؤل العام الجديد، برغم رقم 13 (2013) الذي يعد مشؤوماً حسب معظم الثقافات.
والهاوية المالية، إن لم تتم عملية تداركها من خلال بلوغ تفاهم بين البيت الأبيض (باراك أوباما، الديمقراطي) والكونجرس (جون بينر، الجمهوري)، رئيس الكونجرس، تنطوي على سقوط الاقتصاد الأميركي العملاق في ذات المسار المحبط الذي سقط فيه الاقتصاد اليوناني والاقتصادات الأوروبية الضعيفة المهددة بإعلان الإفلاس، ومنها الاقتصادان الإسباني والبرتغالي، زيادة على الاقتصاد الإيطالي.
بيد أن الهاوية الاقتصادية الأميركية تختلف كثيراً عما يلم بالاقتصادات أعلاه على نحو جوهري.
فإذا كانت هذه الاقتصادات محدودة الحجم والدور عالمياً، بحيث يمكن مد يد العون إليها من قبل اقتصادات قوية كالاقتصادين الألماني والياباني، فإن الاقتصاد الأميركي يشكل عبئاً لايمكن لأحد أن يساعد على انتشاله، ذلك أنه بدرجة من الضخامة والثقل، أن أحداً لايقوى على مساعدته قط.
وملخص ‘حافة الهاوية المالية’ يتمثل بالديون الحكومية، إذ بقيت الإدارة الأميركية تستدين وتقترض طوال عقود لتغطية نفقات الحروب والسياسة الخارجية والتسليح، زيادة على نفقات التخصيصات العامة التي لا مفر من الإيفاء بها، وهي أعباء ‘تريليونية’ بالحرف الواحد، وبضمنها تخصيصات ‘الأمن الاجتماعي’ الذي يشكل المعادل الأميركي لنظام التقاعد في دول مثل الشرق الأوسط، إضافة إلى تخصيصات ‘الضمان الصحي’ الخاص بكبار السن والمعوقين وسواهم من أصحاب الحالات الخاصة غير القادرين على العمل أو دفع الضرائب.
وتاريخياً لمزيد من إلقاء الضوء على خلفية الأزمة المالية. كانت بداية الأزمة قبل أكثر من أربع سنوات في عهد الجمهوريون والرئيس الأميركي جورج بوش (الأبن) وكانت إندلاع الأزمة المالية العالمية (الربع الثالث من عام 2007) تم إقرار عدد من القوانين المُحفزة للإقتصاد الأميركي (آنذاك) أهمها الإعفاءات الضريبية أو ما يسمى (قانون تخفيضات بوش الضريبية) وزيادة الإنفاق الحكومي لإنتشال الإقتصاد من حالة الركود وتحفيزه، ولكن هذه المحفزات سينتهي أجلها حسب الإتفاق المسبق في الأول من يناير 2013 وأطلق على هذا التاريخ (حافة الهاوية المالية) أو كما سماه وزير الخارجية الأسبق ‘جيمس بيكر’ (القنبلة الموقوتة).
وعليه يُمكن تعريف الهاوية المالية على أنها نهاية التخفيضات الضريبية وتقليص الإنفاق الحكومي من أجل خفض الدين العام الأميركي والذي قارب من 16 تريليون دولار اميركي.
واختلف الساسة والإقتصاديون الأميركان والعالم بأثر تلك الهاوية المالية والتهديد المحتمل للاقتصاد الأميركي نتيجتها وعواقبها.
إلى ذلك يبدو أن الولايات المتحدة ربما تتجه نحو الركود في عام 2013، حيث لجأت إلى حزمة إجراءات تقشفية تشمل خفض الإنفاق العام و إلغاء إعفاءات ضريبية بقيمة 600 مليار دولار، وهذه الإجراءات سيتم تطبيقها مع بداية العام الحالي في الولايات المتحدة إذا لم يتوصل الرئيس الأميركي والكونغرس إلى اتفاق بديل قبل هذا الموعد.
وحتى إذا تجنبت البلاد الانزلاق إلى (الهاوية المالية) فإن التسوية السياسية الهزلية التصميم التي تقضي بخفض العجز بسرعة أكبر مما ينبغي قد تدفع الاقتصاد الضعيف إلى الركود، ولكن التفعيل التدريجي لسقف كلي للتخفيضات الضريبية والاستثناءات أو ما يطلق علية النفقات الضريبية مقترناً بإصلاح الإنفاق على الاستحقاقات، من شأنه أن يحقق ضبط الأوضاع المالية في الأمد البعيد، وهو ما تحتاج إليه أميركا من دون المجازفة بالانزلاق إلى الركود من جديد.
وكما هو معروف، فقد كان اقتصاد الولايات المتحدة متعثراً بمعدل نمو أقل من 2 في المائة خلال العام الماضي، فضلاً عن توقعات قاتمة مماثلة لعام 2013، وحتى من دون صدمة الهاوية المالية، وهو ما من شأنه أن يخفض الطلب 600 مليار دولار في الإجمال ما يعادل 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً في العام القادم وبمستويات أعلى في الأعوام اللاحقة.
من جهتهم يطالب الجمهوريون في الكونغرس بتغييرات هيكلية للمعاشات الحكومية وخطط الرعاية الصحية، بما في ذلك زيادة سن التأهيل، هي شروط قبل التوصل لأي صفقة لتجنب (الهاوية المالية) إلى ذلك، يقضي البديل الذي اقترحه الرئيس’ أوباما’ للهاوية المالية بزيادة كبيرة في المعدلات الضريبية والحد من التخفيضات الضريبية بالنسبة للمنتمين إلى شريحة الـ 2 في المائة الأعلى دخلاً، والذين يدفعون الآن 45 في المائة من الضرائب الفيدرالية على الدخل الشخصي.
وتهدف ميزانية ‘أوباما’ المقترحة أيضاً إلى زيادة الضرائب على الشركات وإنهاء العطلة الضريبية على الرواتب الحالية، بفرض 2 في المائة ضريبة إضافية على كل من يتقاضى راتباً وفي مجموعها، فإن هذه التغييرات قد تخفض إجمالي الطلب بما يقرب من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن شأن معدلات الضريبة الهامشية الأعلى أن تقلص من الحافز إلى العمل والاستثمار، وهو ما يعني المزيد من تعويق النشاط الاقتصادي.
تقع الضرائب على الدخل في صلب الجدل المحتدم الجاري في الولايات المتحدة حول خفض العجز في الميزانية لا سيما وأنها في أدنى مستوياتها منذ نهاية ولاية الرئيس ‘رونالد ريجان’ قبل عشرين عاماً.
وبالرغم من اقتراب خطر ‘الهاوية المالية’ التي ستدخل معها خطة من الاقتطاعات في النفقات والزيادات في الضرائب حيز التنفيذ بشكل تلقائي في يناير ما لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس، تعهدت الطبقة السياسية برمتها في واشنطن بإبقاء الضرائب بمستواها الحالي لجميع الأميركيين تقريباً ولو أن هذا المستوى يعتبر متدنياً جداً.
والولايات المتحدة تسجل ثالث أدنى مستوى ضريبي بين دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الـ34 بعد تشيلي والمكسيك، حيث لا تتعدى نسبة الضرائب الإلزامية على الثروة الوطنية (اجمالي الناتج الداخلي) 25.1 بالمائة بالمقارنة مع 44.2 بالمائة في فرنسا التي تفرض ثالث أعلى ضرائب في مجموعة هذه الدول الثرية بحسب تصنيف العام 2011.
ويشير البيت الأبيض إلى أن الموارد الضريبية للدولة الفدرالية لم تصل إلى مثل هذا المستوى المتدني منذ 1950. ويبرر الانكماش عام 2008 وبطء الانتعاش الاقتصادي جزئياً تدني العائدات الضريبية.
غير أن الضرائب على الأميركيين الأكثر ثراء لم تكن بالمستوى المتدني الذي هي عليه اليوم منذ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وفي الخمسينيات كانت الشريحة الأعلى من هذه الضريبة تصل إلى 91 بالمائة، وبعد ذلك ظلت حتى العام 1981 تتخطى سبعين بالمائة.
وتدنت بعدها إلى خمسين بالمائة ثم 28 بالمائة في عهد ‘رونالد ريغان’، ومع ‘بيل كلينتون’ عادت وارتفعت إلى 39.6 بالمائة لتعود وتهبط في عهد جورج بوش إلى 35 بالمائة، المستوى الذي أبقى عليه ‘باراك أوباما’ في ولايته.
وفي فرنسا على سبيل المقارنة كانت الشريحة الأعلى بمستوى 41 بالمائة إلى أن تم استحداث شريحة إضافية بنسبة 45 بالمائة على المداخيل ما فوق 150 ألف يورو. وفي مواجهة الأزمة أقر ‘باراك أوباما’ أيضاً تخفيضات في المساهمات الاجتماعية.
وأدت التخفيضات الضريبية المتتالية إلى اتساع الهوة على صعيد العائدات الضريبية بين الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا.
وبحسب أرقام منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فإن شخصاً أعزب بدون أطفال يتقاضى أجراً متوسطاً يدفع ما معدله 28 بالمائة من الضرائب في فرنسا، مقابل 22 بالمائة في الولايات المتحدة، تضاف إلى ذلك الضرائب والرسوم المحلية.
وما يزيد من حدة هذا الفارق أن المواطنين الأميركيين لايدفعون ضريبة على القيمة المضافة على المستوى الفدرالي، خلافاً لجميع الدول الغنية تقريباً مثل فرنسا حيث يدفع المستهلكون 19.6 بالمائة من ضريبة القيمة المضافة على مشترياتهم.
وتفرض العديد من الولايات والمدن الأميركية ضريبة على الاستهلاك لكنها أدنى مستوى بكثير وتتراوح في غالب الأحيان بين 5 و10 بالمائة، ويتم تعليقها بشكل منتظم، كما حصل في نيويورك على سبيل المثال على مشتريات الملابس ما دون 110 دولارات (86 يورو).
في المقابل، فان الضرائب على الشركات في الولايات المتحدة هي من الأعلى بين الدول الغنية إذ تصل إلى 35 بالمائة، وهي نسبة تعهد ‘باراك أوباما’ بخفضها.
كما تعاني الميزانية الأميركية من تخفيضات ضريبية تضاف إلى هذا المستوى المتدني، ومنها مثلا حسم الفوائد على القروض التي تسددها العائلات الأميركية على مساكنها من مداخيلها الخاضعة للضرائب، وهو تخفيض أقره ‘نيكولا ساركوزي’ في فرنسا لفترة عابرة.
وبحسب مركز السياسة الضريبية ‘تاكس بوليسي سنتر’ فان ‘الهاوية المالية’ ستفرض زيادة في الضرائب بنسبة 20 بالمائة على جميع الأسر وتخفيضاً في النفقات العامة بحوالي 10 بالمائة بهدف الحد من العجز القياسي في الميزانية. ولتفادي ذلك يمكن إلغاء بعض الامتيازات الضريبية أو فرض سقف لها.
وبكل تأكيد إن أية تغييرات بالسياسة الضريبية وخصوصاً لدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية من خلال رفع الضرائب والعمل على تقليص الإنفاق وخصوصاً في هذه الأوقات والتي ما زال الإقتصاد الأميركي إسوة ببقية الإقتصاديات العالمية يتأرجح كما قلنا في غرفة الإنعاش سيكون بكل تأكيد له تأثيرات مالية واقتصادية وتجارية وإستثمارية وأيضاً سياسية كبيرة.
وكم يتوقع الكثيرون بأن أكبر خطر لتلك السياسة المزمع تنفيذها هو دخول الإقتصاد الأميركي في حالة ركود اقتصادي ليس من الممكن لأحد توقعه التنبؤ به لامن حيث مدته ولامن حيث آثاره ونتائجه.
ومن الممكن أيضاً أن تؤدي تلك إلى التخفيض الإئتماني والجدارة الإئتمانية للولايات المتحدة الأميركية كإجراء احترازي من قبل وكالات الائتمان الدولية مما يعني ارتفاع كلف الفائدة والتمويل على الدولار الأميركي والولايات المتحدة الأميركية مما سيؤدي إلى ارتفاع الدين وارتفاع أسعار الفائدة مما يعني انجرار بقية دول العالم نحو تهديد الركود نتيجة انخفاض الاستثمارات مع ارتفاع كلف التمويل.
إذن نحن على بعد أقل من شهر واحد ويُصبح الاقتصاد الأميركي أمام أخطر أزمة مالية واقتصادية وسياسية في تاريخه الحديث.
إن مجرد التفكير بإرتفاع أسعار الفائدة خلال الفترة القليلة القادمة سيؤدي إلى توقف العديد من المشاريع الكبرى وعدم قدرة الدول إصدار سندات دين بكلف معقولة (من الممكن تقبلها وتحملها) مما سيؤدي إلى انخفاض الإنفاق الحكومي بدرجات متفاوتة ولكن كبيرة وبنفس الوقت ارتفاع معدلات الباحثين عن عمل وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية وإختفاء وتبخر جميع الجهود والخطط والبرامج التي تم العمل بها ومن خلالها لدفع عجلة الاقتصاد الأميركي نحو النمو.
نعم من الممكن أن يتم تأجيل تلك الاستحقاقات والالتزامات المالية والقانونية مدة قصيرة من الزمن وبالاتفاق مع السلطات التشريعية الأميركية (بشقيه الشيوخ والنواب) من أجل تجنب أية عواقب لا يمكن مجرد التفكبر بها وبنتائجها ولكن بنفس الوقت من الممكن أن يؤدي ذلك إلى استمرار ارتفاع العجز والمديونية لمستويات خطيرة وغير مسبوقة أيضاً من الصعب مُجرد التفكير بها وبنتائجها على الولايات المتحدة الأميركية وعلى بقية دول العالم من إحتمالية (مجرد احتمالية) انهيار الدولار الأميركي نتيجة هروب المستثمرين منه ومن الاستثمار بأدواته المالية المختلفة.
وقد يكون عدم الاتفاق لغاية الآن على الحافة (الهاوية) المالية هو نزاع سياسي بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي).
والمنحدر المالي القادم يتطلب التوصل إلى اتفاق بين قطبي السياسة الأميركية’الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي’ قبل نهاية العام الميلادي 2012، وإلا فالنتيجة الحتمية هي’الكساد’ الذي سيتعرض له الاقتصاد الأميركي، حيث يقدر أن يكون مقدار الانكماش المالي فيه بحدود 600 مليار دولار عام 2013 وسيكون هذا الانكماش مدخلا لعواقب لاعد لتفرعاتها ولا حصر لارتكاساتها.
وفي هذا الإطار يقول وزير الخزانة الأميركي ‘تيموثي جاينتر’ أن البيت الأبيض والإدارة الأميركية مُستعدة لتطبيق إجراءات التقشف المالي وزيادة الضرائب المعروفة بإسم (الهاوية المالية)، إذا ما رفض الأعضاء الجمهوريون في الكونجرس الوصول إلى حل وسط بشأن زيادة الضرائب على الأثرياء.
ولكن الخوف الأكبر هو القيام بخفض العجز من خلال تقليص النفقات بشكل سريع جداً مما قد يؤثر بشكل سلبي وحاد على الاقتصاد والذي من الممكن أن لايحتمله الاقتصاد الهش والذي بدوره سيؤدي إلى حدوث كساد وركود مالي.
وفي الواقع، ثمة فجوة كبيرة في رؤية الفريقين يُستوجب جسرها، وإلا فالمحصلة التي تسمّى حتى الآن الانحدار المالي أو الهاوية المالية ستأكل كثيراً من الأخضر واليابس، ليس في الاقتصاد الأميركي فحسب، بل في الاقتصاد العالمي أيضاً، تُعيدنا إلى أجواء الحرائق الكبرى في الثلاثينيات من القرن الفائت.
ومن المتوقع أن تتأثر اقتصاديات دول المنطقة (وعلى رأسها الدول الخليجية) من جراء الهاوية المالية الأميركية نتيجة ارتفاع الانكشاف على الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الأربع الماضية، وبلغت قيمة الاستثمارات المُباشرة في أدوات الدين الأميركي للدول الخليجية بحدود 270 مليار دولار اميركي ودول مثل الصين بلغت أكثر من 1.2 تريليون دولار اميركي واليابان بحدود 1.15 تريليون دولار اميركي والبرازيل أكثر من 240 مليار دولار اميركي وتايوان أكثر من 200 مليار دولار اميركي.
وقد بلغت دول العالم مُجتمعة (دول ومؤسسات مالية وبنوك وصناديق تقاعد واستثمار) استثماراتها في أدوات الخزانة المالية الأميركية أكثر من 5.5 تريليون دولار اميركي لتشكل أكثر من 35 في المائة من نسبة الدين العام الأميركي بشكل مُباشر، وبشكل غير مُباشر أكثر من 25 في المائة (من خلال الإيداعات في البنوك الأميركية والاستثمارات في شركات الاستثمار والصناديق الأميركية) مما يعني أنه هنالك أكثر من 60 في المائة من المديونية الأميركية تم تمويلها وشراء أدواتها المالية من خلال تلك الدول والصناديق والبنوك التجارية والاستثمارية خارج اميركا (بشكل مُباشر)، ومن داخل اميركا (بشكل غير مُباشر).
اِن التأثير سوف يكون كبيراً على تلك الدول وخصوصاً الدول النفطية العربية منها بسبب تركز الاستثمارات العربية الخليجية في أدوات الدين والاستثمار الأميركية حالياً وتاريخياً، على الرغم من وجوب وجود خطط تحوط مالي (بكل تأكيد) لتلك الدول والصناديق الاستثمارية والسيادية لمواجهة تلك الحالات والاحتمالات والتي كانت متوقعة ومعروفة لغالبية المحللين والاقتصاديين.
إن مسألة العجز المالي الأميركي والدين العام ليست مشكلة اليوم والأمس، ولكن هي منذ بدأ العصر الحديث، وما بعد الحرب العالمية الثانية، ومسألة حلها يجب أن تتم عاجلاً أم أجلاً وجميع الصناديق الاستثمارية والسيادية تقوم باحتساب تلك المخاطر عند اتخاذ القرار بالاستثمار في الدولار الأميركي وأدوات الدين العام الأميركي، لا بل يقوموا بالتحوط من تلك الآثار والتخفيف منها من خلال الاستثمار بالسلع وعلى رأسها الذهب والنفط والذي يتم تقويمهما بالدولار الأميركي.
إذاً، فالولايات المتحدة تقف الآن على المفترق بين الالتصاق بمبادئ اقتصادها الرأسمالي الصرف (ممثلة بالجمهوريين المهيمنين على الكونجرس)، وبين شيء مخفف من التدخل الحكومي الذي لا يسمح بالمساس ببرامج الإنفاق العامة التي تضمن حياة كبار السن والمعوقين، من بين سواهم من فئات المحتاجين لمعاونة الدولة.
وهكذا يبقى الأميركان هذه الأيام يحبسون أنفاسهم خشية أن يصل الاقتصاد الأميركي إلى ‘حافة الهاوية’ دون إيجاد الحل المناسب الذي يجنبها السقوط في ‘الهاوية’ الحادة التي تعني المزيد من الضرائب والتكاسل الاقتصادي والترهل المالي وكلاهما يتوعدان الأميركان بمستقبل مظلم يمكن أن يأتي على أنموذج ‘الحلم الأميركي’ على نحو نهائي!.
وقد لايصدق القراء في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني من ضائقة مالية حقيقية، بمعنى أنها يمكن أن تقود أقوى وأغنى دولة في العالم إلى كارثة اقتصادية تنتظر اقتصادها خلف ما يصطلح الأميركان عليه بـ ‘حافة الهاوية المالية’.
والحقيقة فإن الأميركان، إدارة وشعباً، يترقبون الوصول إلى ‘حافة الهاوية’ أعلاه خلال أسابيع، لتختلط لديهم مشاعر الابتهاج بأعياد الشكر والميلاد والسنة الجديدة بمشاعر الخوف والقلق اللذين يحبطان أسباب تفاؤل العام الجديد، برغم رقم 13 (2013) الذي يعد مشؤوماً حسب معظم الثقافات.
والهاوية المالية، إن لم تتم عملية تداركها من خلال بلوغ تفاهم بين البيت الأبيض (باراك أوباما، الديمقراطي) والكونجرس (جون بينر، الجمهوري)، رئيس الكونجرس، تنطوي على سقوط الاقتصاد الأميركي العملاق في ذات المسار المحبط الذي سقط فيه الاقتصاد اليوناني والاقتصادات الأوروبية الضعيفة المهددة بإعلان الإفلاس، ومنها الاقتصادان الإسباني والبرتغالي، زيادة على الاقتصاد الإيطالي.
بيد أن الهاوية الاقتصادية الأميركية تختلف كثيراً عما يلم بالاقتصادات أعلاه على نحو جوهري.
فإذا كانت هذه الاقتصادات محدودة الحجم والدور عالمياً، بحيث يمكن مد يد العون إليها من قبل اقتصادات قوية كالاقتصادين الألماني والياباني، فإن الاقتصاد الأميركي يشكل عبئاً لايمكن لأحد أن يساعد على انتشاله، ذلك أنه بدرجة من الضخامة والثقل، أن أحداً لايقوى على مساعدته قط.
وملخص ‘حافة الهاوية المالية’ يتمثل بالديون الحكومية، إذ بقيت الإدارة الأميركية تستدين وتقترض طوال عقود لتغطية نفقات الحروب والسياسة الخارجية والتسليح، زيادة على نفقات التخصيصات العامة التي لا مفر من الإيفاء بها، وهي أعباء ‘تريليونية’ بالحرف الواحد، وبضمنها تخصيصات ‘الأمن الاجتماعي’ الذي يشكل المعادل الأميركي لنظام التقاعد في دول مثل الشرق الأوسط، إضافة إلى تخصيصات ‘الضمان الصحي’ الخاص بكبار السن والمعوقين وسواهم من أصحاب الحالات الخاصة غير القادرين على العمل أو دفع الضرائب.
وتاريخياً لمزيد من إلقاء الضوء على خلفية الأزمة المالية. كانت بداية الأزمة قبل أكثر من أربع سنوات في عهد الجمهوريون والرئيس الأميركي جورج بوش (الأبن) وكانت إندلاع الأزمة المالية العالمية (الربع الثالث من عام 2007) تم إقرار عدد من القوانين المُحفزة للإقتصاد الأميركي (آنذاك) أهمها الإعفاءات الضريبية أو ما يسمى (قانون تخفيضات بوش الضريبية) وزيادة الإنفاق الحكومي لإنتشال الإقتصاد من حالة الركود وتحفيزه، ولكن هذه المحفزات سينتهي أجلها حسب الإتفاق المسبق في الأول من يناير 2013 وأطلق على هذا التاريخ (حافة الهاوية المالية) أو كما سماه وزير الخارجية الأسبق ‘جيمس بيكر’ (القنبلة الموقوتة).
وعليه يُمكن تعريف الهاوية المالية على أنها نهاية التخفيضات الضريبية وتقليص الإنفاق الحكومي من أجل خفض الدين العام الأميركي والذي قارب من 16 تريليون دولار اميركي.
واختلف الساسة والإقتصاديون الأميركان والعالم بأثر تلك الهاوية المالية والتهديد المحتمل للاقتصاد الأميركي نتيجتها وعواقبها.
إلى ذلك يبدو أن الولايات المتحدة ربما تتجه نحو الركود في عام 2013، حيث لجأت إلى حزمة إجراءات تقشفية تشمل خفض الإنفاق العام و إلغاء إعفاءات ضريبية بقيمة 600 مليار دولار، وهذه الإجراءات سيتم تطبيقها مع بداية العام الحالي في الولايات المتحدة إذا لم يتوصل الرئيس الأميركي والكونغرس إلى اتفاق بديل قبل هذا الموعد.
وحتى إذا تجنبت البلاد الانزلاق إلى (الهاوية المالية) فإن التسوية السياسية الهزلية التصميم التي تقضي بخفض العجز بسرعة أكبر مما ينبغي قد تدفع الاقتصاد الضعيف إلى الركود، ولكن التفعيل التدريجي لسقف كلي للتخفيضات الضريبية والاستثناءات أو ما يطلق علية النفقات الضريبية مقترناً بإصلاح الإنفاق على الاستحقاقات، من شأنه أن يحقق ضبط الأوضاع المالية في الأمد البعيد، وهو ما تحتاج إليه أميركا من دون المجازفة بالانزلاق إلى الركود من جديد.
وكما هو معروف، فقد كان اقتصاد الولايات المتحدة متعثراً بمعدل نمو أقل من 2 في المائة خلال العام الماضي، فضلاً عن توقعات قاتمة مماثلة لعام 2013، وحتى من دون صدمة الهاوية المالية، وهو ما من شأنه أن يخفض الطلب 600 مليار دولار في الإجمال ما يعادل 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً في العام القادم وبمستويات أعلى في الأعوام اللاحقة.
من جهتهم يطالب الجمهوريون في الكونغرس بتغييرات هيكلية للمعاشات الحكومية وخطط الرعاية الصحية، بما في ذلك زيادة سن التأهيل، هي شروط قبل التوصل لأي صفقة لتجنب (الهاوية المالية) إلى ذلك، يقضي البديل الذي اقترحه الرئيس’ أوباما’ للهاوية المالية بزيادة كبيرة في المعدلات الضريبية والحد من التخفيضات الضريبية بالنسبة للمنتمين إلى شريحة الـ 2 في المائة الأعلى دخلاً، والذين يدفعون الآن 45 في المائة من الضرائب الفيدرالية على الدخل الشخصي.
وتهدف ميزانية ‘أوباما’ المقترحة أيضاً إلى زيادة الضرائب على الشركات وإنهاء العطلة الضريبية على الرواتب الحالية، بفرض 2 في المائة ضريبة إضافية على كل من يتقاضى راتباً وفي مجموعها، فإن هذه التغييرات قد تخفض إجمالي الطلب بما يقرب من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن شأن معدلات الضريبة الهامشية الأعلى أن تقلص من الحافز إلى العمل والاستثمار، وهو ما يعني المزيد من تعويق النشاط الاقتصادي.
تقع الضرائب على الدخل في صلب الجدل المحتدم الجاري في الولايات المتحدة حول خفض العجز في الميزانية لا سيما وأنها في أدنى مستوياتها منذ نهاية ولاية الرئيس ‘رونالد ريجان’ قبل عشرين عاماً.
وبالرغم من اقتراب خطر ‘الهاوية المالية’ التي ستدخل معها خطة من الاقتطاعات في النفقات والزيادات في الضرائب حيز التنفيذ بشكل تلقائي في يناير ما لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس، تعهدت الطبقة السياسية برمتها في واشنطن بإبقاء الضرائب بمستواها الحالي لجميع الأميركيين تقريباً ولو أن هذا المستوى يعتبر متدنياً جداً.
والولايات المتحدة تسجل ثالث أدنى مستوى ضريبي بين دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الـ34 بعد تشيلي والمكسيك، حيث لا تتعدى نسبة الضرائب الإلزامية على الثروة الوطنية (اجمالي الناتج الداخلي) 25.1 بالمائة بالمقارنة مع 44.2 بالمائة في فرنسا التي تفرض ثالث أعلى ضرائب في مجموعة هذه الدول الثرية بحسب تصنيف العام 2011.
ويشير البيت الأبيض إلى أن الموارد الضريبية للدولة الفدرالية لم تصل إلى مثل هذا المستوى المتدني منذ 1950. ويبرر الانكماش عام 2008 وبطء الانتعاش الاقتصادي جزئياً تدني العائدات الضريبية.
غير أن الضرائب على الأميركيين الأكثر ثراء لم تكن بالمستوى المتدني الذي هي عليه اليوم منذ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وفي الخمسينيات كانت الشريحة الأعلى من هذه الضريبة تصل إلى 91 بالمائة، وبعد ذلك ظلت حتى العام 1981 تتخطى سبعين بالمائة.
وتدنت بعدها إلى خمسين بالمائة ثم 28 بالمائة في عهد ‘رونالد ريغان’، ومع ‘بيل كلينتون’ عادت وارتفعت إلى 39.6 بالمائة لتعود وتهبط في عهد جورج بوش إلى 35 بالمائة، المستوى الذي أبقى عليه ‘باراك أوباما’ في ولايته.
وفي فرنسا على سبيل المقارنة كانت الشريحة الأعلى بمستوى 41 بالمائة إلى أن تم استحداث شريحة إضافية بنسبة 45 بالمائة على المداخيل ما فوق 150 ألف يورو. وفي مواجهة الأزمة أقر ‘باراك أوباما’ أيضاً تخفيضات في المساهمات الاجتماعية.
وأدت التخفيضات الضريبية المتتالية إلى اتساع الهوة على صعيد العائدات الضريبية بين الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا.
وبحسب أرقام منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فإن شخصاً أعزب بدون أطفال يتقاضى أجراً متوسطاً يدفع ما معدله 28 بالمائة من الضرائب في فرنسا، مقابل 22 بالمائة في الولايات المتحدة، تضاف إلى ذلك الضرائب والرسوم المحلية.
وما يزيد من حدة هذا الفارق أن المواطنين الأميركيين لايدفعون ضريبة على القيمة المضافة على المستوى الفدرالي، خلافاً لجميع الدول الغنية تقريباً مثل فرنسا حيث يدفع المستهلكون 19.6 بالمائة من ضريبة القيمة المضافة على مشترياتهم.
وتفرض العديد من الولايات والمدن الأميركية ضريبة على الاستهلاك لكنها أدنى مستوى بكثير وتتراوح في غالب الأحيان بين 5 و10 بالمائة، ويتم تعليقها بشكل منتظم، كما حصل في نيويورك على سبيل المثال على مشتريات الملابس ما دون 110 دولارات (86 يورو).
في المقابل، فان الضرائب على الشركات في الولايات المتحدة هي من الأعلى بين الدول الغنية إذ تصل إلى 35 بالمائة، وهي نسبة تعهد ‘باراك أوباما’ بخفضها.
كما تعاني الميزانية الأميركية من تخفيضات ضريبية تضاف إلى هذا المستوى المتدني، ومنها مثلا حسم الفوائد على القروض التي تسددها العائلات الأميركية على مساكنها من مداخيلها الخاضعة للضرائب، وهو تخفيض أقره ‘نيكولا ساركوزي’ في فرنسا لفترة عابرة.
وبحسب مركز السياسة الضريبية ‘تاكس بوليسي سنتر’ فان ‘الهاوية المالية’ ستفرض زيادة في الضرائب بنسبة 20 بالمائة على جميع الأسر وتخفيضاً في النفقات العامة بحوالي 10 بالمائة بهدف الحد من العجز القياسي في الميزانية. ولتفادي ذلك يمكن إلغاء بعض الامتيازات الضريبية أو فرض سقف لها.
وبكل تأكيد إن أية تغييرات بالسياسة الضريبية وخصوصاً لدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية من خلال رفع الضرائب والعمل على تقليص الإنفاق وخصوصاً في هذه الأوقات والتي ما زال الإقتصاد الأميركي إسوة ببقية الإقتصاديات العالمية يتأرجح كما قلنا في غرفة الإنعاش سيكون بكل تأكيد له تأثيرات مالية واقتصادية وتجارية وإستثمارية وأيضاً سياسية كبيرة.
وكم يتوقع الكثيرون بأن أكبر خطر لتلك السياسة المزمع تنفيذها هو دخول الإقتصاد الأميركي في حالة ركود اقتصادي ليس من الممكن لأحد توقعه التنبؤ به لامن حيث مدته ولامن حيث آثاره ونتائجه.
ومن الممكن أيضاً أن تؤدي تلك إلى التخفيض الإئتماني والجدارة الإئتمانية للولايات المتحدة الأميركية كإجراء احترازي من قبل وكالات الائتمان الدولية مما يعني ارتفاع كلف الفائدة والتمويل على الدولار الأميركي والولايات المتحدة الأميركية مما سيؤدي إلى ارتفاع الدين وارتفاع أسعار الفائدة مما يعني انجرار بقية دول العالم نحو تهديد الركود نتيجة انخفاض الاستثمارات مع ارتفاع كلف التمويل.
إذن نحن على بعد أقل من شهر واحد ويُصبح الاقتصاد الأميركي أمام أخطر أزمة مالية واقتصادية وسياسية في تاريخه الحديث.
إن مجرد التفكير بإرتفاع أسعار الفائدة خلال الفترة القليلة القادمة سيؤدي إلى توقف العديد من المشاريع الكبرى وعدم قدرة الدول إصدار سندات دين بكلف معقولة (من الممكن تقبلها وتحملها) مما سيؤدي إلى انخفاض الإنفاق الحكومي بدرجات متفاوتة ولكن كبيرة وبنفس الوقت ارتفاع معدلات الباحثين عن عمل وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية وإختفاء وتبخر جميع الجهود والخطط والبرامج التي تم العمل بها ومن خلالها لدفع عجلة الاقتصاد الأميركي نحو النمو.
نعم من الممكن أن يتم تأجيل تلك الاستحقاقات والالتزامات المالية والقانونية مدة قصيرة من الزمن وبالاتفاق مع السلطات التشريعية الأميركية (بشقيه الشيوخ والنواب) من أجل تجنب أية عواقب لا يمكن مجرد التفكبر بها وبنتائجها ولكن بنفس الوقت من الممكن أن يؤدي ذلك إلى استمرار ارتفاع العجز والمديونية لمستويات خطيرة وغير مسبوقة أيضاً من الصعب مُجرد التفكير بها وبنتائجها على الولايات المتحدة الأميركية وعلى بقية دول العالم من إحتمالية (مجرد احتمالية) انهيار الدولار الأميركي نتيجة هروب المستثمرين منه ومن الاستثمار بأدواته المالية المختلفة.
وقد يكون عدم الاتفاق لغاية الآن على الحافة (الهاوية) المالية هو نزاع سياسي بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي).
والمنحدر المالي القادم يتطلب التوصل إلى اتفاق بين قطبي السياسة الأميركية’الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي’ قبل نهاية العام الميلادي 2012، وإلا فالنتيجة الحتمية هي’الكساد’ الذي سيتعرض له الاقتصاد الأميركي، حيث يقدر أن يكون مقدار الانكماش المالي فيه بحدود 600 مليار دولار عام 2013 وسيكون هذا الانكماش مدخلا لعواقب لاعد لتفرعاتها ولا حصر لارتكاساتها.
وفي هذا الإطار يقول وزير الخزانة الأميركي ‘تيموثي جاينتر’ أن البيت الأبيض والإدارة الأميركية مُستعدة لتطبيق إجراءات التقشف المالي وزيادة الضرائب المعروفة بإسم (الهاوية المالية)، إذا ما رفض الأعضاء الجمهوريون في الكونجرس الوصول إلى حل وسط بشأن زيادة الضرائب على الأثرياء.
ولكن الخوف الأكبر هو القيام بخفض العجز من خلال تقليص النفقات بشكل سريع جداً مما قد يؤثر بشكل سلبي وحاد على الاقتصاد والذي من الممكن أن لايحتمله الاقتصاد الهش والذي بدوره سيؤدي إلى حدوث كساد وركود مالي.
وفي الواقع، ثمة فجوة كبيرة في رؤية الفريقين يُستوجب جسرها، وإلا فالمحصلة التي تسمّى حتى الآن الانحدار المالي أو الهاوية المالية ستأكل كثيراً من الأخضر واليابس، ليس في الاقتصاد الأميركي فحسب، بل في الاقتصاد العالمي أيضاً، تُعيدنا إلى أجواء الحرائق الكبرى في الثلاثينيات من القرن الفائت.
ومن المتوقع أن تتأثر اقتصاديات دول المنطقة (وعلى رأسها الدول الخليجية) من جراء الهاوية المالية الأميركية نتيجة ارتفاع الانكشاف على الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الأربع الماضية، وبلغت قيمة الاستثمارات المُباشرة في أدوات الدين الأميركي للدول الخليجية بحدود 270 مليار دولار اميركي ودول مثل الصين بلغت أكثر من 1.2 تريليون دولار اميركي واليابان بحدود 1.15 تريليون دولار اميركي والبرازيل أكثر من 240 مليار دولار اميركي وتايوان أكثر من 200 مليار دولار اميركي.
وقد بلغت دول العالم مُجتمعة (دول ومؤسسات مالية وبنوك وصناديق تقاعد واستثمار) استثماراتها في أدوات الخزانة المالية الأميركية أكثر من 5.5 تريليون دولار اميركي لتشكل أكثر من 35 في المائة من نسبة الدين العام الأميركي بشكل مُباشر، وبشكل غير مُباشر أكثر من 25 في المائة (من خلال الإيداعات في البنوك الأميركية والاستثمارات في شركات الاستثمار والصناديق الأميركية) مما يعني أنه هنالك أكثر من 60 في المائة من المديونية الأميركية تم تمويلها وشراء أدواتها المالية من خلال تلك الدول والصناديق والبنوك التجارية والاستثمارية خارج اميركا (بشكل مُباشر)، ومن داخل اميركا (بشكل غير مُباشر).
اِن التأثير سوف يكون كبيراً على تلك الدول وخصوصاً الدول النفطية العربية منها بسبب تركز الاستثمارات العربية الخليجية في أدوات الدين والاستثمار الأميركية حالياً وتاريخياً، على الرغم من وجوب وجود خطط تحوط مالي (بكل تأكيد) لتلك الدول والصناديق الاستثمارية والسيادية لمواجهة تلك الحالات والاحتمالات والتي كانت متوقعة ومعروفة لغالبية المحللين والاقتصاديين.
إن مسألة العجز المالي الأميركي والدين العام ليست مشكلة اليوم والأمس، ولكن هي منذ بدأ العصر الحديث، وما بعد الحرب العالمية الثانية، ومسألة حلها يجب أن تتم عاجلاً أم أجلاً وجميع الصناديق الاستثمارية والسيادية تقوم باحتساب تلك المخاطر عند اتخاذ القرار بالاستثمار في الدولار الأميركي وأدوات الدين العام الأميركي، لا بل يقوموا بالتحوط من تلك الآثار والتخفيف منها من خلال الاستثمار بالسلع وعلى رأسها الذهب والنفط والذي يتم تقويمهما بالدولار الأميركي.
إذاً، فالولايات المتحدة تقف الآن على المفترق بين الالتصاق بمبادئ اقتصادها الرأسمالي الصرف (ممثلة بالجمهوريين المهيمنين على الكونجرس)، وبين شيء مخفف من التدخل الحكومي الذي لا يسمح بالمساس ببرامج الإنفاق العامة التي تضمن حياة كبار السن والمعوقين، من بين سواهم من فئات المحتاجين لمعاونة الدولة.
وهكذا يبقى الأميركان هذه الأيام يحبسون أنفاسهم خشية أن يصل الاقتصاد الأميركي إلى ‘حافة الهاوية’ دون إيجاد الحل المناسب الذي يجنبها السقوط في ‘الهاوية’ الحادة التي تعني المزيد من الضرائب والتكاسل الاقتصادي والترهل المالي وكلاهما يتوعدان الأميركان بمستقبل مظلم يمكن أن يأتي على أنموذج ‘الحلم الأميركي’ على نحو نهائي!.
البديع