28 | 4 | 2019
هو يوم الكلمات التي قيلت والتي قد تخدش جبروت هذا القدر العظيم ..
هو يومك …
زياد
——————————————
هكذا ودون مقدمات، ولمجرد أن سألته عن حاله .. أخذ يقول :
” ليتك تستطيع أن تتخيله عندما كان يمشي تارة، أو يقف تارة ليحدّث من كانوا معه . أظن أنه كان معلقا بين الموت والحياة . الموت يحدق فيه، وهو يحدق في الموت، وربما وجد كل منهما الفرصة مواتية من أجل اختراق ما .. أي اختراق ممكن . لكنه كان يقطع حديثه أحيانا بسؤال أحدهم عن موعد وصول السيارة التي ستقله مع جثمان ولده وسط خشوع يخيم عليهم جميعا . بما في ذلك هو الذي استطاع رغم كل شيء أن يتحمل تبعات وجوده واقفا وحاضرا وطبيعيا .
نعم كان يبدو طبيعيا وسط هذا الخشوع المؤلم إلى حد الانسحاق . لكن من المرجح أنّ أحدا في هذا العالم ما كان بإمكانه أن يتخيل ملامح وجهه التي ما انفكت منذ ما يقارب الشهرين، وهي المدة التي قضاها مع ولده المقيم في غرفة تتزاحم فيها أجهزة المراقبة . أن يتخيل تلك الملامح التي كانت أشبه بأجرام تتبعثر، ثم تتشكل في أماكن قصية من هذا الكون .
ولعلك تعلم أنّ علماء الفلك يعرفون بهذا الأمر الذي أحدثك عنه، ولا أعرف إذا ما شاهدوه بمراصدهم . لأنه قد يكون من الحكمة ألا يروا هذا المشهد الرهيب، ولا أظنّ أنّ الله خلقهم ليروه . تماما كما أفترض أنه ليس من الحكمة أن يرى أحد الموت، وحتى هذا الذي أحدثك عنه ما كان يجب أن يراه . لكن الأمر حدث، وقد رآه بكامل اتساع نظره .
لا داعي لأن أحدثك كيف رآه، وبأي صورة رآه . لكنّ المرأة التي كانت تقف بجواره، والتي تفتخر بانتمائها إلى إحدى القبائل البدوية، وكانت قد عرفته منذ يوم واحد . أخذت تصلي بصمت كي لا يختفي جمال تلك العينين اللتين تفتحتا على الحياة منذ أربعين عاما . لكن من أين لصلاتها أن تنفع وقد استقر اللون الأصفر فيهما تماما ؟! بل إنّ ذلك الاصفرار الرهيب كان قد انتشر خلال لحظات في كامل وجهه الجميل .
يا لها من لحظات تلك التي تستطيع أن تكون دهرا، أو كل هذا الزمن من بدايته إلى نهايته . لكن من يعرف بداية الزمن ونهايته ؟ تلك المرأة البدوية لا تعرف حتما، وشيخ قبيلتها لا يعرف أيضا، وعلماء أمريكا لا يعرفون شيئا . لا بد أنّ الأمر قد يكون لغزا رهيبا، والله لم يعطنا سوى الألغاز . ندور حولها . نقترب منها، وفي النهاية نبتعد عنها مؤقتا حتى دون أن نبتل بشيء من فلسفتها .
دقائق أخرى مرت إلى أن جاءت السيارة، ولكون السائق متدرب على التصرف في مثل هذه اللحظات بكل الخشوع المطلوب . تكفل مع أحد عمال ملجأ المشفى بوضع الجثمان داخل السيارة، ثم أحضر الإذن بنقل الجثمان . بعد ذلك جلس خلف مقود السيارة وشغل المسجل بانتظار صعود ذلك الوالد المنكوب، والذي بات يعرف أنّ ما من شيء يجبره على البقاء دقيقة أخرى . فودّع الأصدقاء الذين حضروا لوداعه، ثم ركب السيارة .
هكذا غادرا المشفى . هو وجثمان ولده دون أمل بالعودة إلى الديار سالمين معا . حتى صوت المقرئ محمد عبد المطلب كان يعلن ذلك وهو يخترق شوارع دمشق الجديدة، وكذلك هضابها المزدانة بالعمارات والحدائق . علما أنّ ذلك الوالد البائس كان يرى كل شيء .. كل شيء، وأظنّ أنه سأل السائق أكثر من مرة أين أصبحوا ؟ فكان السائق يخفض صوت المسجل ليجيبه، ثم يعود ويرفعه مجددا . فيعود ذلك البائس ليصغي إلى صوت المقرئ، والمقرئ يرفع صوته نحو السماء .
وكانت السماء شاحبة حزينة، وحواجز التفتيش تستقبل السيارات وتودعها . حاجز بعد آخر إلى أن تهادت السيارة أخيرا على الطريق العام .. ساعة كاملة من المسير كانت كافية لخروجهم من دمشق التي لا خراب فيها، وحينذاك كان قد بلغ الخدر المنبعث من أعماق النفس أشدّه ، هو خدر رهيب . بل هو خدر قد لا يعرفه إلا الداخل إلى الجحيم أو الخارج منه . لأنّ الخدر في الحالين كما أظن واحد، وسأظل مقتنعا بصورة قاطعة أنّ التعبير عن هذا الخدر يبدأ بذاك الأنين المنطلق من أعماق النفس، ثم يقترب أكثر ليصبح أشبه بالصراخ، أو النحيب الممزوج بيأس تام .
ولحظة بعد أخرى . يقترب الألم ويتضح رويدا ليحيل الصوت إلى بكاء مرعب، وألم لا يطاق، ونحيب وعويل ميئوس منه . بل أكاد أجزم أنّ كل ذلك اجتمع مرة واحدة في صوت ذلك البائس المنكوب، وربما وجد في هذه الحرية التي حظي بها في تلك اللحظة الرهيبة . الفرصة الأمثل ليوصل صوته إلى السماء، وطبعا لم أستطع أن أتمالك نفسي . فأخذت أرتجف والدموع تطفر من عيني .
أخيرا أود أن ألقي عليك سؤالا : هل يكفي هذا الذي قلته لك الآن ؟ أظن أنه يكفي .
هذا ما قاله لي قبل أن ينصرف تاركا لي تلك الرجفة التي تحدث عنها . يونس محمود يونس _صافيتا