ناظم عيد – الخبير السوري:
أما وأن مكوّنات اقتصادنا و”معادن” رجالاته قد انكشفت تحت ضربات الواقع المرير، والرجال يُعرفون أيام الشدائد لا أيام الموائد، فلا بد من ترتيبٍ جديد جوهره إعادة النظر بقوام قطاعات كبرى انبرت للمواجهة مع استحقاقات تنموية شغلتنا ودغدغت طموحاتنا على مرّ عقود من الزمن، فاختارت الانطواء في الركن الريعي الطفيلي من مساحات سورية “الجريحة حالياً” ، لجباية وقطف جلّ دسم النتاج العام للبلاد بخلاصاته الظاهرة بهيئة نقود بهوياتها متعددة الجنسيّات، ثم انكفأت بل غابت بكامل ملاءاتها المالية الهائلة، في أحلك ظرف يمكن أن تمرّ به البلد!.
بالفعل ثمة سؤال “نزق” بدأ يلحّ في تقديم نفسه إلى واجهة التداول العام في سياق الحزمة ذاتها من الأفكار والتوجّسات، يستفسر عمّا سيؤول إليه الحل والعلاج بشأن شركات يصح وصفها بـ”شركات الفرص الامتيازية”، وهي شركات الانفتاح التي بالغنا في الاحتفاء في بتوطينها، ربما كردّات فعل متسرّعة على إجراءات مزمنة من الحصر والمنع وتجليات ” الاقتصاد المغلق أو المنغلق” ..؟.
يزداد إلحاح سؤال من الطراز الإستراتيجي كهذا، وبشكل لا يخلو من التوجّع، كلما كان يُفصح مسؤولو مصرف لبنان عن رقم جديد من متوالية الأرقام الصاعدة في بنية إيداعات السوريين هناك، ومعظمها يعود لشركات وليس لأشخاص.. بعضهم تسرّع في الاعتراف بأنها وصلت إلى حدود 37 مليار دولار، في وقت همس آخرون بأنها تجاوزت 56 مليار دولار..حتى ولو تم سحب هذه التصريحات واستبدلها بأخرى متحفظة نوعاً ما، لكن مهما كان الرقم فإنه يزيد عن ضعفي الاحتياطي المركزي السوري قبيل الأزمة “في العام 2010″، وتقودنا مثل هذه السيرة إلى أرقام مشابهة على مستوى الاستثمارات الجديدة للسوريين في الأردن “370” مصنعاً، وفي تركيا “10 آلاف شركة”.
إلّا أن الصورة الأوضح بخطورتها تبدو في المضمار اللبناني، حيث تعود الأموال المودعة هناك لشركات ما زالت قائمة هنا في سورية، وعلى الأرجح هي مستمرة في نشاط “تهجير القطع الأجنبي” وعبر قنوات شبه مشروعة على اعتبار رساميلها التأسيسية لبنانية الجنسية، وتعود لشركات أمّ هناك!.
نحن على يقين بأن هذا الملف معقّد، لكن لا بد من فتحه والبدء بمعالجته سريعاً، وندرك حقيقة تزاحم الاستحقاقات الراهنة، إلا أن بقاء هذه الخاصرة مفتوحة تنزف دولاراً، من شأنه إبطال أي مفاعيل إيجابية يمكن أن ينتجها الحراك الحكومي المكثّف، الذي يبدو تحدي الدولار مستحكماً به إلى حد غير قليل، وهذا واقع قائم حتى ولو لم يعترف به الرسميون.
أما المرحلة الثانية من المعالجة، فيجب أن تتمحوّر في سياق عام يشمل إعادة صياغة بنى الاقتصاد السوري، واستدراك هفوات الحكومات السابقة، وإيجاد صيغة ما للحد من استفراد الشركات الريعية ذات الجنسيات غير السورية بمقدرات البلاد، واستحواذها على حصص نظيراتها الحكومية، التي انكفأت تحت وطأة توجهات الحكومات نحو العناية الفائقة بالرساميل الوافدة.
قد يكون الحل – إن لم يحصل تصحيح طوعي لهذا الخلل من قبل الشركات ذاتها – بدخول الحكومة كمساهم قوي في هذه الشركات، بنسب تضمن حصّة من العائدات المجزية، كما تضمن عدم تحريك الحسابات إلّا بعلم الدولة، أو تكليفها – الشركات- بعبء اجتماعي أو اقتصادي جديد، مع فرض رقابة شديدة على أعمالها وميزانياتها وموجوداتها، أو أي صيغة أخرى تضمن حقوق الدولة وتمنع تحوّل مثل هذه الشركات إلى “خاصرة ضعيفة” في زمن المحنة والوهن.
الملف لم يعد يحتمل التأجيل، ويخطئ كل من يرى أن التريث مطلوب حتى يحين الوقت المناسب، دون أن يحدد معايير ذلك “الوقت المناسب”، وإن عقدنا العزم على المباشرة بالمعالجة، فلابد أن يتضمّن ذلك جردات حساب ومساءلة بمفعول رجعي.
ولتكن البداية بإرغام هذه الشركات على إعادة الأموال التي “هرّبتها” باتجاه البلدان المجاورة، ونعتقد أن نصف أزمتنا الاقتصادية سيُحل لو نجحنا، ويجب أن ننجح.