#المتلقي_ليس_غبياً
على صفحات فيسبوك تنتشر مقاطع فيديو عن هوامش حدث ما، عن مواقف سلبية وأخرى إيجابية وثالثة شخصية، فتحصد عددا من الإعجابات أكبر بكثير مما تحصده القطعة الصحفية التي ستُنشر عن الحدث بعدها بساعات.
أما على منصة إنستغرام التي تحتل 85% من اهتمامات الجمهور، فتحتل الهوامش موقعاً رئيسياً تحت اسم عنوان أخبار صحفية، وبتوقيع من يسمي نفسه إعلامياً، وباعتماد العناصر البصرية الجاذبة للمتلقي، في عدد قليل من الثواني، يسمي ما يقدمه صحافة
دمى صحفية ومهرجون يجلبون الإعجابات والمشاهدات على الفضاء الرقمي، أكبر بكثير مما يستطيع الوصول إليه الصحفي المحترف، الذي يهتم بالمتلقي، لا بل يعتبر نفسه مسؤولاً أمامه عن كل كلمة يقولها، وعن مهنية المادة التي يقدمها.
قبل ثلاثين عاما أو ربما أقل، قالها الكولومبي #غابرييل_غارسيا_ماركيز: “ليس الخبر الأفضل هو الذي ينقل أولاً، بل هو الذي يُروى بالطريقة الأمثل”، كانت تلك وصية من الأب الروحي للصحافة، باتت اليوم ورقة بالية لدى صحفيي الجيل الجديد، الذين “تغتالهم” و”توجههم” هواتفهم وتفرض عليهم فورية نقل الخبر، الذي ما زالت حقيقته تطبخ على نارها.
نعيش في عالم يعاني فرط العولمة، فرط الجوع والعطش للأنباء والمعلومات، دقيقة بدقيقة، نريد أن نعرف ماذا ومَن، وكيف حدث ذلك.
هكذا تجري الأمور اليوم، سواء مع الأهل في المنزل أو مع زميل في مكتب العمل، مع راكب في سرفيس، وكل ذلك يدفعنا إلى الضحك المفرط أحياناً أو التألم والحزن، على إثر كل إجراء تجلدنا به الوقائع.
المتلقي يريد أن يعرف: كيف ولماذا، أن يصل إلى المعرفة، لأن #المعرفة_تعني_القوة، قالها #توماس_هوبز منذ عام 1668 في كتابه (#اللوفياتان)، ونحن الصحفيين نريد أن نعرف وأن نُظهر أننا نعرف، أن نبدو أقوياء على ساحة الأحداث، لكن السؤال الأهم هو: هل نعرف شيئا ذا قيمة.
يشرع المراسل في التغطية من مكان الحادثة، لكنه يخاطب الجمهور بعبارات مقتضبة، عبارات شائعة تتضمن شكوكا أكثر مما تعطيه من إجابات، بل تزرع مزيدا من الارتياب في نفوس الجمهور، إحدى العبارات يقول فيها: “وصلنا إلى الموقع الذي وقع فيه الحريق قبل لحظات، لا نعرف بالضبط كم هو عدد الضحايا، لم نعرف ما إذا كانت هناك إصابات، وسنوافيكم أعزاءنا المشاهدين أولا بأول بما نحصل عليه من معلومات، الساعة الآن العاشرة مساء والأجواء شديدة البرودة هنا…إلخ.
هل لأحد أن يجد أيّ قيمة صحفية لهذا الاستعراض؟ لا شيء.
لا يفيدنا في شيء وجود المراسل في موقع الحادثة إذا لم تتوفر لديه مادة للتغطية، والأسوأ من ذلك كله، أنه من خلال البث المباشر الذي أطلقه بهاتفه الجوال سيكون قد التقط سلسلة من الصور في الموقع ليرفعها على صفحته، مدفوعا بالحاجة الملحة إلى الفوز بحصرية الخبر، الذي ليست فيه أي معلومة ذات قيمة تُذكر، ولينتهي به الحال إلى أنه أجّج عطشا كبيرا وعددا من التساؤلات بلا إجابة لدى جمهوره ـ وإن كان افتراضياً – فإنه ليس بأقل حرصاً على معرفة تفاصيل الجحيم الذي كانت تقدح ناره هناك.
كثير من الصحفيين سقطوا في هذه الخطيئة القاتلة… يتخذون من هاتفهم الجوال أساساً وشريكاً في العمل، يعمدون إلى النشر فورا على منصات التواصل الاجتماعي ومخاطبة الجمهور من هناك، وهو جمهور مُجزأ ومنقسم في الحقيقة، وكأن الواحد من هؤلاء الصحفيين يقول للمتابعين: “لقد وصلت أولاً إلى مسرح الأحداث، أنا الأفضل”، مع أني لا أملك أدنى فكرة عمّا يجري هنا، كيف احترق المبنى؟ لماذا لم يصل رجال الإطفاء في الوقت المناسب، لماذا لم يعتمد المبنى على قدراته الذاتية في إطفاء الحريق؟ والكثير من الفراغات والأسرار بلا أي إجابة، يعطونك خبرا على شكل هرم كامل من الأسئلة فحسب؛ من؟ وماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟