إنهم يزرعون الكراسي
مجرد اسم في البيت الطيني داخل الحارة الكسيحة في تلك القرية العرجاء التي لا تعدو كونها خطا في خريطة متهالكة ، يدخلها مرة في اليوم قطار مخمور يتسكع على خط السكة الحديدية ، وبصوت بح ينادي عليهم ربما يغامر أحدهم ويركبه لكن الكبار هنا تعلموا ألا يجادلوا البحر في موجه ، فهم يفضلون السير حفاة وفي أفضل الأحوال يركبون الدواب ؛ فالمسافات عندهم مثل أيديهم قصيرة ، يتجمع الصغار في ساحة الجرن المتربة ، يخرج جحا في ثيابه الرثة راكبا حمارَه بالمقلوبِ خلفه تلاميذه ، ليسألَه أحدُهم :
– لماذا تركبُ كما نرى يا سيدي ؟
فأجابه قائلاً :
وما أصنعُ ؟! إني إذا ركبت مستقيمًا تبقون خلفَ ظهرِي ، وإذا سرتم أمامي أبقى خلفَكم ، من أجلِ هذا ركوبي بالمقلوبِ هو الأصحُّ ، الحكيم يأتي متكئا على عصاته المعوجة يفترش أرض الجرن غير مبال للأتربة المتراكمة يمسك ببقايا طبشور التقطته أصابعه من بين التراب ليكتب على اللوح الخشبي الباهت
” في البلد التي تعبد عجلا حش البرسيم واعط له ”
وبصوته المشروخ :
– هذا درسكم الأول تضعونه قرطا في آذانكم كي ترعوا شتلاتكم الصغيرة فتصير أشجارا لا يقتلعها كائن من كان
يمسك أصيصا يعلمهم كيف يرعون شتلاتهم الصغيرة حتى تصير شجرة تمتد جذورها في الأرض فلا تقتلعها عواصف الأيام ورياح الصدف ، يعي الصغير درسه الأول يشب عن الطوق يصير شابا ليغامر ويركب القطار لأول مرة ،فما إن ركب حتى وجد كرسيا شاغرا يريد أحدهم أن يجلس عليه فيقفز إليه سريعا ويجلس متشبثا به يود لو ينتزع الكرسي من القطار ويأخذه لكن محال ؛ فالكرسي مثبت بالمسامير إلى أرضية العربة ولا يمكن نزعه مهما حدث ، هنا يدرك ويعي ما تعلمه من الحكيم في درسه الثاني وعلى رصيف محطة العاصمة تلتف الساق بالساق فيطأطئ رأسه يدسها بين أجساد الجموع مخترقا الزحام صوب شوارع المدينة ليخرج أولا وحينئذ يعي نجاحه في تطبيق الدرس الثالث الذي تعلمه ، وعند الخروج تعلو أصوات الجموع تعترض على الحاجز المروري يمنعهم رجل المرور رافعا عصاه فيصعدون الكوبري المعدني الكبير مرغمين في حين أغلق هو فمه لم يعترض فقط ابتسم لرجل المرور في خنوع ففتح له الحاجز المروري ليعبر وحده فوصل قبل العابرين فوق الكوبري للجهة الأخرى فيفرح لتفوقه في امتحان الدرس الرابع وأمام المبنى الشاهق تتزاحم الجموع في أوسط السلم تتلاحم أجساد النازلين بالصاعدين في حين يصعد هو من الحافة اليسرى للسلم مستندا للحائط فيصل قبل الجميع وبذلك يكون قد حقق ما قد وعيه من الدرس الخامس وعند مدخل باب الإدارة اصطفت أصائص الشتلات الصغيرة لا تعيرها الجموع التفاتا بينما يقبل ليحتضن إحدى الشتلات يسقيها دروسه الخمسة التي ضمها لتكون عقدًا في أوسطه صورةٌ لحمارٍ مربوطٍ ، صارت الشتلة شجرة ذات جذور ممتدة إلى الأعماق ، تنمو الشتلة وتصير شجرة تقوى وتمتد جذورها يوما بعد يوم ، ذات يوم وقف ساعي المكتب يلمع لوحا نحاسيا مثبتا بالمسامير على الباب الكبير وقد حفر اسمه على اللوح النحاسي وفجأة يضاء المصباح الأحمر والموظف الأنيق يحمل الملفات يمنعه ساعي المكتب من الدخول
– البيه عنده اجتماع مهم
مضت السنوات وفي السيارة السوداء الفارهة يعود لقريته التي اختفى منها القطار المخمور واندثرت معه السكة الحديدية والبيوت الطينية وتعالت الأبنية واصطفت السيارات واختفت الدواب و في الطرقات على الأسفلت نساء يرتدين البنطلونات يمشين بشعورهن السارحة دون قيود ، وفي المساء يصحبونه للاجتماع بالشباب في القاعة المكيفة وسط القرية ، يجلس على الكرسي يتوسط المنصة تترقبه العيون
– اليوم أعلمكم كيف ترعون شتلاتكم
ولما وصل جحا إلى الوليمة بثيابه الرثة ، طرده الخدم من الباب، فعاد إليهم بثيابه المدخرة وعليه عباءة أعطاها له أحد الأمراء، فأكرموه وتقدموه إلى مكان المائدة، فغمس كمه في الصحان واحدة بعد واحدة، فقال للكم كأنه يناجيه: ” كل يا كمي، فلولاك ما وصلت إلى هذا الطعام ” يحمل كل منهم شتلته وقد وعى دروسه الخمسة .
بقلم سمير لوبه