قد تُخسر القضايا العادلة إذا أسيء اختيار وسائل الدفاع عنها .
لا أعتقد أنه ثمّة من ينكر وجود أزمة عميقة تعيشها الثقافة في بلادنا حتى ذهب البعض إلى حد القول بأنها في حالة إنعاش لا بل موت سريري.وقد نشرت شخصيا مقالا بالشارع المغاربي مما قلت فيه إن الأمور تتجاوز شخص الوزير مهما كان استعداده للعمل والنهوض بالثقافة في غياب مشروع ثقافي جدير بهذه التسمية وسياسة ثقافية تعمل عبر برامج واضحة على إنجازه ورصد الاعتمادات اللازمة لذلك.واستأت مثل كثير من التونسيين من ضحالة بعض العروض المقدمة خصوصا في المهرجانات.
والصراع الحاصل منذ مدة بين الوزيرة الحالية وعدد ما فتئ يتزايد من الشعراء والكتاب والفنانين وإطارات الوزارة يجعلني أعود إلى الموضوع من جديد وأنظر إليه من زاوية أخرى. وقد عبرت كغيري عن تضامني مع من تعرضوا للاستجواب والنقل التعسفية وتجميد الأجور والمحاكمات مثلما يحصل حاليا للشاعر سامي الذيبي وحصل قبل ذلك لغيره.
ثمة من ذكّر في سياق تعليقه على ما حصل بامتناع شارل ديغول عن محاكمة جان بول سارتر معتبرا ذلك محاكمة لفولتير وفرنسا التي تتجسد فيه. وثمة من قال بأن الشعر لا يسجن. وأنا نفسي قلت” السجن للمجرمين والفاسدين لا للشعراء والكتاب والمثقفين” .وهذا صحيح من حيث المبدأ .فالقاعدة هي الحرية سواء تعلق الأمر بالإبداع الفني أو بالتعبير عن الرأي والموقف من الشأن العام.لكن بعد أن قرأت تدوينة سامي الذيبي التي قدم من أجلها للمحاكمة تساءلت: ألا توجد ضوابط وأخلاقيات يلتزم بها المثقف من تلقاء نفسه عن قناعة دون أن تتحول إلى رقابة ذاتية ثقيلة الوطء ودون أن تفرضها عليه سلطة خارجية سواء كانت سياسية أو عقائدية أو أخلاقية/ مجتمعية؟ ألا توجد حدود فاصلة بين النقد مهما كان شديدا قاسيا والشتم وتجريح الأشخاص؟بصراحة صدمني ما ورد بالقسم الأول من تدوينة سامي الذيبي التي لم يطلع عليها كثيرون ممن تضامنوا معه دون أدنى تحفظ.وقد عبرت عن صدمتي لبعض الأصدقاء على الخاص قبل كتابة هذه التدوينة المطولة .
قال بعضهم في سياق الدفاع عنه بأن الشاعر ليس ملاكا وأن الكأس قد فاض نتيجة “الهرسلة” المتواصلة وأي شخص في مكانه كان سيخرج عن طوره و يسب و يقذع في سبّه. وذكّر بقصيدة مظفر النواب التي سب فيها الساسة العرب مستعملا فاحش القول . المقارنة في رأيي لا تجوز .والأمر لا يتعلق بالطهورية من عدمها .ففي تلك القصيدة تعميم لا تشخيص وتعبير عن قرف وتقزز لم تسلم منهما حتى الذات الشاعرة التي لا تقف موقف المتعالي من قذارة الآخرين بشكل يذكر على نحو ما بتأفف المعري المتعفف من نفسه ومن أهل زمانه.
وحتى ندرك أبعاد ما حصل لا يجب أن نقرأه بمعزل عما عاشته البلاد وتعيشه منذ 2011. فقد كانت الأفواه قبل هذا التاريخ مكممة ثم حصل انفجار هائل أدى إلى انفلات يصعب ضبطه حتى أن من كان يسير” الحيط الحيط” أصبح ” صيد بوحصير(ه) أو ” بوقلاد(ه) “.لقد أخرج التونسيون أسوأ ما فيهم وغدت “ثورة الياسمين” الناعمة أشواك قتاد تدمي فأصبح المجلس النيابي الذي هو أعلى سلطة ميدان صراع عنيف تم فيه تجاوز كل الحدود وتحولت وسائل الإعلام على اختلافها إلى منابر بلا ضوابط وتحولت النقاشات فيها إلى صراع ديكة .وفشلت الهايكا في أخلقة ما تروجه. أما وسائل التواصل الاجتماعي فقد تحولت إلى مسالخ ومحاكم تفتيش ومنابر لهتك الأعراض والحرمات . قلنا لابأس . لقد تحطم جدار الخوف والزمن كفيل بتجاوز هذه الحال من الفوضى وهذه ” السوق والدلّال” التي يحكمها منطق المزايدات لبلوغ حال الاعتدال والاقتصاد وإدراك أن الحرية قرينة المسؤولية لكن بعد مرور أكثر من عشر سنوات لم تتحسن الحال بل زادت سوءا لاشتداد الصراع بين الخصوم السياسيين .وجاء المنشور عدد 54 ليضبط الأمور لكنه أثار جدلا واسعا لأنه فتح الباب واسعا أمام عديد التجاوزات .وهو على كل حال يتعلق بترويج الأخبار الزائفة لا بما نحن فيه من حديث عن تحول النقد إلى سب وقذف.
يؤسفني شخصيا بل يؤلمني أن ينحدر شاعر أو كاتب أو مثقف إلى ما وصل إليه الفضاء العام من تدنّ واسفاف .لا تقولوا بأنه لا يعيش في كوكب آخر وأنه يجوز له ما يجوز لعامة الناس ولا تخلطوا بين جرأة المبدع في تحطيم التابوهات وتجاوزه للحدود وهو ينقد غيره ويعبر عن رأيه في الشأن العام. إن الأدباء مثلما قال بعضهم” مهندسو النفوس” وهذا يلقي على عاتقهم مهمة ثقيلة خطيرة وهي إعطاء المثل بما يفعلون ورسم الطريق للآخرين والترفع عن السفاسف إذا كانوا فعلا طلائعيين مثلما يعتقدون لا أن يسيروا في مؤخرة القافلة ويجاروا عامة الناس.
وبالعودة إلى ما تتخذه الوزارة من وسائل ردع وزجر ضد المثقفين وخصوصا العاملين صلبها على المسؤولين أن يتحلوا بالصبر ورحابة الصدر إذا حصلت تجاوزات وأن لا يستسهلوا اللجوء إلى العقوبات وخصوصا النقل التعسفية وقطع الأرزاق والمحاكمات التي قد تفضي إلى سلب الحرية .هذا باب إذا فتح يصعب غلقه. وبالمقابل على من بحوزته ملفات موثقة حول الفساد أن يقدمها للقضاء.