الرّسالة الأولى
عزيزي،
إذا استعصى عليكَ قلبٌ كُفَّ عن وِصاله، وإذا تغيّرَ عليْكَ أحدٌ امنحه نسياناً كأنّه لم يكنْ.
كُتِبَ عليَّ القتالُ وهو حِلٌّ لي؛ بهذا أخبرني صديقي الأبوي ذات ليلة، فكلّما اعتليتُ قمّةَ الجبلِ تدحرجَتْ حبّةُ السُّكّرِ عن ظهري وكانت جلمودَ صخرٍ حطّها السّيلُ من عَلٍ.
هُنا كانت الحكايةُ تعيدُ نفسها مِنَ البدايةِ، كان يا ما كان، ما أسوأ هذا الاستهلالَ الماضويَّ الذي أوقفَ السّاعةَ قُرابةَ سبعينَ عامًا ونيّف في المشهد. يقول باولو كويهلو أيضًا “لا شيء في الدّنيا خاطئ تمامًا؛ حتى “السّاعة المتوقّفة” تكون صحيحة مرتين في اليوم”.. فهل كانت ساعتها صحيحة ولو لمرّة واحدة؟ ومتى؟
الحربُ هي الطّريقةُ الوحيدةُ للشّيطانِ ليُعلِّمَنا الجغرافيا؛ الحربُ وحدها تعلّمُنا أسماءَ المدنِ والشّوارعِ والأحياءِ وأسماءَ البحارِ والأنهارِ والزّمن، أما الأوبئةُ فهي الطّريقةُ المُثلى لنتعلّم فنّ الحياة، أترى؟ الحرب/ الوباء هما وجهان لفكرةٍ واحدةٍ تسمى الخلود، مَنْ ينجو منهما سيكونُ عليه أنْ يُحدّثنا عن سِيَرِ الأوّلين، تمامًا كما فعل المحارب رقم ٣١٣ الذي نجا بمحضِ المصادفةِ من معركةِ إسبرطةَ الأخيرة.
أتعرف؟ أقطن حي شيشلي، كانت شيشلي في التّاريخ المنصرم مقرًاً للكثير مِنَ الجنسيات الأُخرى التي سكنتْ إسطنبول مثل اليونانيين والأرمن والبلقان، لذا إذا تفحّصتَ المعمار في منطقة شيشلي جيدًا ستجدُ كمّاً هائلاً مِنَ المباني القديمة ذات الطّابعِ المختلفِ، وستجدُ أنَّ لكُلِّ مكانٍ طابعهُ المميّز تبعاً لاختلاف تاريخ ساكنيه القُدامى. كان لي نصيبٌ من السّكنِ في حي كرتولوش موطن التّاريخ اليوناني والأرمني بشيشلي، كان فيما مضى يضمّ مساكنَ اليونانيين والأرمن الخشبية، والتي اندثرَ معظمها في حريقٍ هائلٍ عام 1929 وبجانب منزلي مقبرةُ الأرمنِ واليونانيين. هنا كانت النّقطةُ الفاصلةُ بين عالمينِ وحربينِ وقرنينِ زمانيينِ ما بين القرنِ التّاسعِ عشر والعشرين، وفي هذه النّقطة قُتِلَ وهُجِّرَ أرمنُ ويونانيون كُثُر، هل في هذا إشارة ما لي؟ لم أعد أفهم علمَ الإشارات يا صديقي، ربما توقّف الزّمن في أسبوعِ التّرحيلِ، تلك النّقطةُ الفاصلةُ بين عالمينِ وامرأتين، ربما هي حياةٌ مؤجّلة، أو أنّ العالم يخبركَ بأنّ لك حياة واحدة، أمّا المرأة الأُخرى فهي ناجية بمحض المصادفة مِنَ الخيام.
تعلّمتُ فنَ الانتظارِ مِن أبي وجدّي، كانا يعيشانِ على أملٍ واحدٍ: العودةُ! عاشا على ذاكرةٍ توقّفت عام ١٩٤٨، أتعرفُ أنّه العام الذي ولد فيه أبي في خيمةٍ بيضاءَ صغيرةٍ في قطاعِ غزّة؟ ربما القَنطرة وربما في حي العبّاسيّة! جدّتي لم تكنْ تذكرُ غير ولادته وهي في الطّريق مِنَ البلادِ إلى المجهولِ! سمته “جهاد” وتوأمه “جواد”، وهذا الجواد مات سريعاً، كان أبي قد سبقه ورسم خطّاً ما لحياته. عاش أبي بنصفٍ تائهٍ حتى حان موعده.
في الأعوامِ الأخيرةِ للوجودِ الأرمني واليوناني في إسطنبول كان على الضّفةِ الأُخرى جيوش تُعدّ جبراً مِنَ الشّوامِ والمصريين في عام سفر برلك؛ تلكَ الحملةُ التي اقتادت آلافاً من المجنّدينَ في الجيش العثماني ببلادنا وغابوا هناك ولم يعودوا. كانت النّساء تعد الكعك في انتظارِ عودتهم التي لم تأتِ بعد، لكنّ الجراد كان ضيفاً مختلفاً جثمَ على أرواحنا قُبيل الحرب العالمية الأولى، ثم حلّت الإنفلونزا الإسبانية، وبعدها الكوليرا كمحتلين مع عصابات الهجّانة والأشتيرن حتى أُنهِكت النّساءُ، وهلكَ الأطفالُ والعجائز، ونُكِّست أعلام الخلافة العثمانية ليحلَّ مكانها عهدٌ جديدٌ من دولةٍ أُخرى بُنيت على أشلاء أجدادنا في شيشلي، وقبلهم على أجسادِ أقوامٍ أخرى مِنَ الأرمن واليونانيين والشّوام والمصريين.
ما هذا المصير الغريب؟! حتى اليوم، حين تمرُّ بالأحياءِ في الحي الجديدِ ترى كُلَّ تلك الملامح؛ لا أستطيعُ أنْ أُدقِّقَ النّظرَ في ملامحهم فأنا ما أزال عالقةً في شوارعِ وسط البلد وحلوان ومصر الجديدة والإسكندرية وبورسعيد تماماً كما علقت منذ أكثر من ٢٥ عامًا في شوارع يافا والنّاصرة والقُدس وعكّا وحيفا وغزة، أعرف أنّ كُلَّ هذا تغيّر وما يزال يتغيّر.
#رسائل_الشتات
#سردية_المنفى
#إسطنبول
#فلسطين
#مصر
#
أعيد نشر رسائل الشتات التي صدرت في ٢٠٢٢