البشير عبيد
الرّسالة الثّالثة
صباح الخير، ها نحنُ في الأسبوعِ السّادسِ للجائحة ولا نزال أحياء، لبعض الوقت. أعرفُ أنّ الفقدان التّدريجي للأملِ لن يُعجبك.. أطمئنُك! ليس الأمرُ كذلك، ولكن في زمنِ العزلِ وانتظار أعداد المصابين والموتى مساء كُلِّ ليلةٍ أشبه بالعاصفةِ، لا تستطيع الهروب منها، تسحبُكَ إليها وتبتلعُكَ حتى لا تستطيعُ الفكاكَ منها أو الخروج عليها.
حين ينتهى العزل وينحسرُ الوباء لن تكونَ كما كُنتَ مِن قبلُ، لم تعرف كيف كنتَ في السّابقِ، وكيف تدبّرت أمرَكَ خلال العزلِ، وحظر التّجولِ، والحجرِ الصّحي، والمنفى.
في هذه الأيام، يتقلّبُ المزاج كما تتقلبُ الفصول في اليومِ الواحدِ في هذه البلاد.. تفقد سمعَكَ، شهيتَكَ وتصابُ باليباسِ، ثم تفقد قُدرتكَ على الكلامِ.. تصابُ بحالةِ هوسٍ هستيري تتابعُ بشغفٍ اضطراري كُلَّ تفاصيلِ العزلِ، تقرأُ قِصصَ المصابينَ والنّاجيينَ بمحضِ الصُّدفةِ، تشاهدُ وجوهَهم، تتحسّسُ ملامحهم، تشعرُ بآلامِ أمعائِهم، تصيرُ أنتَ هم دونَ أنْ تدري.
تشعرُ ببرودةٍ قاسيةٍ تجتاحُك فتكسِر لحمك.. ولا تعلم هل تنجو مِن هذهِ الظُّلمةِ الموحشةِ وأنت الّذي لم تدرك فعليّاً كيف ينتهي هذا البلاء؟!
ثقيلةٌ هذه التّجربة، وأنت بعيد في هذا المنفى الغارق في تفاصيلِه الكئيبةِ، جميعُ مَنْ حولك لم يدركوا ما أنت فيه، ولم يعلموا بعدُ كيف نجو من العاصفةِ..
كافكا كان يغمرني بفلسفته طيلة الوقت، تزورني نُصوصه الثّقيلة، وتُصاحبني في مناماتي. منذُ أيام، وأنا أبحثُ عن كلماته لتعبر بي طلاسم ذلك الوجع “لحظة انتهاء العاصفة لن تتذكرَ كيف تدبّرت أمركَ لتنجو، ولن تدركَ هل انتهت العاصفة أم لا. هناك أمرٌ واحدٌ تتيقن منه: حين تخرجُ من العاصفةِ لن تعودَ نفسَ الشّخصِ الذي دخلها، لهذا السّبب وحده كانت العاصفة .”
أنْ تكونَ فلسطيني يعني أنْ تُصابَ بشقاءٍ جميلٍ لا تقدرُ على الفِكاكَ منهُ، أنْ تصابَ بلوثةِ أملٍ زائفةٍ، أنْ تُحوّلَ أيَّ هزيمةٍ كبُرت أو صغُرت إلى حجارة تتكىء عليها للصّعود، أنْ تُبقي مستوى الموت مُرادفاً لمستوى الحياة، أنْ تُصابَ بهذا القدر الغرائبي الذي يلاحقُك كعاصفةٍ صغيرةٍ كلّما غيّرت اتجاهك لتنجو، تلاحقُكَ، تُرواغُها مرّةً بعدَ أُخرى، لكنّها تتبعُكَ؛ قدراً يشبه لعنتَكَ، تلك اللّعنةُ التي تشبه رقصةً مشؤومةً مع الموتِ، لا يهبُّ فجَأةً أو يأتيك على حين غفلةٍ منك، ليس شيئاً لا يمتّ لك بِصِلةٍ إنّه أنت، إنّه شيءٌ ما بداخِلِكَ.
كُلُّ ما عليكَ فعلهُ حين تكونُ فلسطينياً هو أنْ تدخلَ في العاصفةِ مباشرةً، تُغمضُ عينيكَ وتسدَّ أُذنيكَ وتسيرُ فيها نحو بلادٍ لا تعرفُ من رائحتها غير إسمك، وبعضاً من ملامحِكَ تحملها على ظهرِكَ وسنينكَ، تمضي نحوها خطوة خطوة، وتفردَ ذراعيك، وتمدّد جسدك فوق صفحة مياهه وتستسلم له.
هُناكَ حيث لا يوجدُ غير صوتِ الرّيحِ تخور في أوصالِكَ، لا شمسَ هناك ولا قمرَ، لا اتجاهاتٍ، ولا احساس بالزّمانِ أو المكانِ، فقط دوامةٌ مِنَ الرّمالِ البيضاء المحبّبة التي تتركُ ندوباً على جسدك منذ طفولتك بالمخيم، ندوبٌ تكوّنت مِن قذيفاتٍ صغيرةٍ، مِن موتٍ كاد يضلّ طريقه إليك، الانفجارات واللّحم المتقطّع بين عينيك يلوّن نهارك الصّغير بروائح الدّماء وشظايا العظام التي تراها في مناماتك المتكرّرة.
أنت تهربُ منذُ أكثرَ مِن أربعين عاماً وهي كُلُّ ما تملكه من زمنٍ نحو حيوات أُخرى تشمُّ فيها رائحة الأعتياد؛ حيث لا أملَ، لا حزنَ، لا فرحَ ولا يأسَ؛ حيواتٍ عاديّةٍ كحياةِ أولئك العاديون جداً.
لا أعرفُ كيف يبدو أولئك البشر، كيفَ تكونُ روائحهم، كيفَ تصبحُ أجسادُهم صافيةً مِن دونِ خربشاتٍ أو ندوبٍ تستوطن جسدك وروحك.
عليكَ دوماً أن لا تُخطئ وأنتَ في العاصفةِ؛ الخطأ ممنوع! كُلُّ خطأ يعني الموت الذي سيقطعُ اللّحمَ والرّؤوسَ، يعني الدّم الذي سيسيلُ داخلَ روحِكَ وينزفُ الجميع، وتتلقّف أنت ذلك الدّم الأحمر الحارَّ بيديك؛ كُلُّ خطأ يعني أنْ تدخُلَ في متاهةِ العاصفةِ لا تعرفُ متى تنجو أو كيف تنجو، ولن تعرفَ مدى لتوقف تلك الرّمال الشّديدةِ السُّرعةِ والعَتمةِ، هناكَ حيثُ أنتَ وحدكَ تقفُ على مقربةٍ مِنَ الحافّةِ تنتظرُ أنْ تعبُرَ معهم، سيعبرونَ ويتركونك تتلاطمك الأسئلة: مَنْ أنا وكيفَ أعيشُ حيوات لا تشبهني، وكيفَ لي أنْ أصنعَ عالماً زائفاً مِن بقاءٍ لا يُحتمل، وحين تنجو مِنَ العاصفةِ لن تعودَ نفسَ الشّخصِ، فثمة شيءٌ تغيّرَ.
#رسائل_الشتات #فلسطين #اسطنبول #كتاب #كتب_عربي