انتحال ثقافي أم أزمة إبداع وابتكار
ليس غريبا أن ترحل النتاجات الفكرية أو الأدبية أو المشاريع الثقافية من بلد إلى بلد آخر ومن أمة إلى أمة أخرى ومن لغة إلى لغة أخرى، لأنها ليست حبيسة أصحابها فقط بل هي ملك للجميع، لاسيما المشاريع الفكرية والثقافية التي تلامس حياة المجتمع وتحاكي همومه، لكن الغريب أن يتبنى تلك النتاجات والمشاريع أشخاص آخرون دون ذكر أو تلميح أو حتى إشارة إلى أصحابها الشرعيين، بل دون مراعاة للملكية الفكرية والأمانة العلمية التي طالما كانت ومازالت معيارا هاما لمناقب العلماء والمفكرين، فإن للأفكار الخاصة ملكية كما للأشياء، لهذا تبقى مرتبطة بملكية من أنتجها سواء كان شخصا أو مؤسسة أو أي جهة أخرى، مما يعني أن الملكية الفكرية هي أيضا من الحقوق التي ينبغي أن تكون في يد صاحبها، فكل ما ينتجه العقل والفكر الإنساني يفرض ضمنيا حق التملك الذاتي، وخصوصا الأفكار التي يمكنها أن تتحول إلى مشاريع ثقافية وفكرية مهمة في المستقبل، لذا فأن التعامل مع أي نتاج فكري أو مشروع ثقافي خاص بالآخرين أمر يتطلب بالضرورة طلب إذن مسبق من صاحب هذا المشروع.
إن نيتي في معرض هذا الحديث هو الكشف عن حقيقة واحقية مشروع ثقافي ولد في العراق وتبنته طنجة، ففي الأمس القريب وتحديدا في السادس من شهر تموز الماضي أقيم في مدينة طنجة ضمن فعاليات مهرجان ثويزا في دورته (17) ندوة فكرية تحت شعار (في الحاجة إلى مشروع ثقافي بديل) شارك فيها أسماء مهمة في الساحة الثقافية العربية أمثال أدونيس من سوريا ويوسف زيدان من مصر وإبراهيم الكوني من ليبيا وأحمد عصيد من المغرب وآخرون. وبعيدا عن وصف موضوعات هذه الندوة وما جاء بها، ساذكر ما قاله الأستاذ أحمد عصيد أحد الأسماء البارزة في هذه الندوة لعله يكون دليلا واضحا وحجة على ما ساتناوله في هذا المقال، فعلى هامش الندوة تحدث قائلا:
(كانت ندوة فكرية هدفها تطارح الاسئلة الكبرى للمرحلة خاصة فيما يتعلق بالمشروع الثقافي البديل ودور النخب الثقافية في قراءة وابداء مفاهيم وافكار جديدة للمراحل القادمة، وأيضا قدمنا مجموعة من الاسئلة الهامة التي ستمكن مستقبلا من بناء مشروع ثقافي بديل)
إن فكرة هذا المشروع وعنوانه وبعض محاوره هو ذات المشروع الثقافي الكبير الذي أطلقه الشاعر والناقد العراقي جمال جاسم أمين في عام ٢٠٠٥، إذ يوازي المشاريع التي تبناها التنويريون العرب، تتعدى طروحات هذا المشروع حدود الفن والأدب، هدفه إحياء للثقافة العراقية التي أصابها التلف والعطب بفعل تراكم الايدلوجيات وتوالي الأزمات وذلك عن طريق ضخ الأسئلة النقدية في فضاء الثقافة العراقية للبحث عن أجوبة مشتركة تساهم في ترميم التصدعات الفكرية والثقافية وأيضا لتفكيك فكرة المؤسسة الثقافية المؤدلجة التي انتجت واقعا ثقافيا مزيفا بعيدا عن الاشتغالات الحقيقية للمثقف وعن دوره الفاعل والمؤثر في المجتمع.
كما أنبثق من هذا المشروع مجلة فصلية بالاسم ذاته ( البديل الثقافي ) والتي مقرها الحالي في مدينة العمارة / محافظة ميسان، وتعمل باسلوب التمويل الذاتي، تتضمن مجلة البديل الثقافي مواضيع عدة في الثقافة والمعرفة والأدب، تشتبك تارة مع الثقافة لإنتاج معنى جديد يتعدى حدود الايدلوجيات المتصارعة من أجل السلطة والمهيمنة على المؤسسة، وتارة مع موقف المثقف ودوره وازمته، وتارة تشاكس طرق انتاج المعرفة من أجل إعادة فحصها وتوسيع افقها الذي ضيقه المؤدلجون ومن تبعهم من أصحاب الثقافات الحزبية التالفة.
إن فكرة البديل الثقافي قامت على سؤال بسيط، يذكره جمال جاسم أمين، أنه بعد عام 2003 حصلت هناك متغيرات كثيرة منها اقتصادية وسياسية واجتماعية ودينية ولكن لم تحصل متغيرات ثقافية، السؤال أين المتغيرات الثقافية؟ إن الأمم تتحول ثقافيا في البدء ثم تتحول اقتصاديا وعسكريا وسياسيا واجتماعيا، لماذا تتحول الثقافات الاخرى ازاء التحول الثقافي، لماذا تتأخر الثقافة وتتقدم التحولات الأخرى، من هنا دخل منطقة المعرفة ومن هنا ابتدأ مشروع البديل الثقافي، فهذا السؤال هو الشرارة الأولى التي شحذت ذهنه وهمه الفكري.
كما تناول البديل الثقافي سؤالا مهما، إلى أين نحن ذاهبون ما الطريق الى الحل، ما سمات الحل، كذلك إن جميع كتب جمال جاسم أمين الفكرية والتي هي سبعة كتب، خرجت من معطف فكرة البديل الثقافي (مقهى سقراط)، (كتابة الجسد)، (وعي التأسيس) (الأزمة المفتوحة)، (اساطير الاستبداد)، (محنة الاقدام الكاذبة) واخيرا كتابه (الحرب تكره الجسور) فمشروع البديل الثقافي، هو مشروع متكامل فيه بيان تأسيسي وهو خطوة مهمة نحو التغيير.
إن من أهم ميزات البديل الثقافي أولا: حول ونقل الحوار والنقد من نقد المثقف الى نقد الثقافة، فالجميع يتصدون الى نقد المثقف ولم يتصدوا إلى نقد الثقافة، فهو يعتبر أن السبب وراء نقد المثقف دون نقد الثقافة، لأنه اضعف الحلقات بينما هو ضحية نسق ثقافي متجذر، إن من ميزات البديل الثقافي أيضا التفريق، بين المعرفة والأيدلوجيا فهو نقد معرفي لا أيديولوجي، ففي البديل الثقافي ميز جمال جاسم بين احتمالية المعرفة ويقينية الأيديولوجية، المعرفة تريد معايير عملية بينما الايدلوجية تريد معايير غيبية، في البديل الثقافي أيضا تفكيك لفكرة المؤسسات الثقافية التي أنتجت خطابا مزيفا، فهو يعتقد أن مشكلة الثقافة العراقية ليست فنية أو أدبية، إنما المشكلة ثقافية، إن الثقافة الاجتماعية التالفة تنتج مؤسسات تالفة، مشكلة الثقافة العراقية إجتماعية قبل ان تكون فنية فهو يرى أن الأمراض المجتمعية التي ننتقدها هي امراض مكثفة في الوسط الثقافي، فيعتبر أن أمراض المجتمع ترحلت من حقل المجتمع الى حقل الثقافة، إن نقد الثقافة عند جمال جاسم تحتاج إلى مكاشفات طويلة، مكاشفات تاريخية، مراجعة الإنساق التي تؤسس الثقافة الاجتماعية وهذه الثقافة الاجتماعية هي الحاضن للأدب والفن والتشكيل وإلى آخره. فهو لا يريد انتاج نصوص إبداعية و جمالية فقط، فيتساءل ما جدوى تلك النصوص الجمالية أن نطلقها في فضاء مرتد، فهو لا يؤمن أن يبقى منتجا للنصوص الجمالية في فضاء قبحي بامتياز فهو يرى إن الأمة تتغالب يوميا و تنتكس يوميا وتتصارع يوميا وهو يغني.
لا شك إن تعدد المشاريع الثقافية وإقامة المؤتمرات والندوات الفكرية أمرٌ يبعث على التفاؤل، لا سيما في واقع ٍ يشهد إعادة صياغة المشهد الثقافي العربي الذي يتطلب مزيداً من الفاعلية والحضور في بلورة أفكاره التي تحدث عنها المفكرون والمثقفون وطرحوها كمشاريع جادة للخروج من أزماتهم المرحلية.
كنا نأمل من مؤتمر طنجة أن يدعم مشروع جمال جاسم أمين الثقافي وأن يضعه في أطار المشاريع الثقافية المهمة لتوسيع دائرة الثقافة العربية والحوار مع الآخر بمختلف توجهاته وتبادل الخبرات والتجارب بحيث تتم الاستفادة منه واقعياً للخروج برؤى فاعلة في قراءة المشهد الثقافي العربي بشكل يعزز منجزه المعرفي ويمزج الهوية الثقافية بين أبنائه لإجراء أكبر قدر من المتغيرات الثقافية في الوعي الجماهيري، وأن يبتعد في هكذا مهرجانات عن الظاهرة الإعلامية التي يكون فيها الحديث عادة أكثر من هموم المجتمعات العربية، وأن يقترب من ظاهرة الثقافة الحقيقية بإحداث متغيرات جذرية لأمة منهكة في وعيها الثقافي.