… قراءة د آسيا يوسف
**فهل تعي؟ هل كنتَ حينئذٍ معي؟ الأسلوب المتكرر للإنشاء الطلبي الاستفهام يفيد طلب التفاعل و الانفعال فما زال يخاطب الطفل في داخله.. و المهد سرير الطفولة الأولى جاء على جمرٍ و اشتعال فقد بنى سفينة نجاته و ربّما رغبته بالرحيل مذكراً إيانا بسفينة نوح عليه السلام يوم الطوفان جاعلاً من الجمر مادته الأساس فالتداعي النفسي لرغبته المكبوتة حمّلت الجمر للرحيل و الجهات و موج البحر و الرياح و المدى و القول في تراسل حواسٍ واضحٍ بين المحسوس و الملموس مضيفاً على القصيدة توهجَ الجمر
الذي مثل له البداية والنهاية و الهداية و الغواية و الذهول في صورٍ متتاليةٍ موحياً بما يعتريه في كلّ حالاته الانفعالية فهو أشبه بأتونٍ متقدٍ لا يقرُّ له قرار…
جمرٌ بداية رحلتي و مسيرتي جمرٌ وعلامات الوصول
فهو كالقابض على جمرة و بخبرة شعرية متمكنة وظّف ظاهرة التدوير ليعود إلى الدائرة الأولى لا وقتَ…..
لا يريد استعادة طفولته و لا الأحداث المنصرمة و يدهش القارئ و نصدم لقوة الصور (نستل من آلامنا ما غار في القاع المكين/يهيلون التراب على بقايا /لم تفارقها اختلاجات الأنين و المبدع يوثق صوراً و أحداثاً توجع ذاكرته كصورة الحراس الذين يدفنون الأحياء و يكرر لا وقت للتذكر…. لا وقت للذكريات.. لا وقت لذكرالمصاعب و أيام الصبا و القلق ولا حتى لترف الحنين.. فالمشاعر أضحت ترفاً لا يقدر عليه فهو في شغلٍ عنها لما هو أكثر أهمية…
و في المقطع السادس يفصح عن المخاطب فما هو إلا الطفل القابع في قلبه و هجع في كيانه إذ يطلب إليه أن يتركه فلا وقت ليتوقف و يرد على أسئلته فهو لا يريد أن يوجعه بكثرة الأحداث و المصائب… (فقد جاهدت عمري /كي أخبئ عنك أوجاعي /لئلا أوجعك) القصيدة تبكي القلوب فكلٌّ منا في داخله طفل غير إننا لا نفصل ذواتنا عنه.. لكن الشاعر المتقد المختلف فكراً و فلسفةً يفعل و يتساءل أيجدر به أن يتبع الطفل بدلاً من أن يتبعه الطفل… و كأنه يريد العودة لبراءة الطفولة ليبرئ مما ألمَّ به..
و في المقطع السابع يكرر اللازمة( لا وقتَ /كي نستحضر النار التي صقلت جموح الصبوة الأولى فهو لا يستذكر فتوته و لهوه ولا بداية طفولته أو شبابه و الطبيعة بكل تفاصيلها تشهد ذلك ففي ذلك الزمن غاب الواقع اليومي من خلال حماسة الشباب وعبير النسوة و الأغنيات وكان سعيداً فطارت أسراب المباهج في فضاءات الحواس في صورة إيحائيةٍ متفرّدة و تراقصت الأطياف ليسمو بفتنة ما يعيش عما يعكر صفو الحياة.. و يرسم دائرة زمنية أخرى فلا وقت لاستحضار الرؤى مستخدماً ضمير الجمع نستحضر /ملامحنا/نستعرض/نسترجع/وكأن المبدع يتحدث عن جيلٍ من الشباب فلو قصد نفسه و الطفل الساكن فيه لاستخدام التثنية فهو بليغ و متمكن من أدواته الفنية…إن أمنياته و رؤاه وطموحاته تمثل أمنيات كل جيله و الأجيال اللاحقة و يكرر لا وقت كي نستعرض الأحلام و الأوهام و الأفكار و الأشعار و نسترجع الزفرات من غبش المرايا في صورةٍ إيحائيةٍ تشي بعمق الزمن و صعوبة التخلي عن الذكريات و يأتي الجواب في المقطع الأخير (يا أيها الطفل…… ليشيرَ لي في كل منعطف إلى درب النجاة) براءة المبدع هي من أنقذته دوماً في الصعاب لكنه يعي ان عليه إيقاف رحلة البحث المعرفي ليحيا فلا وقت إلا للحياة….
**لقد أدت القصيدة وظيفتها الجمالية من خلال التنسيق الجمالي المقصود و الصور الفنية التي يعج بها النص القصيدة لم تترك الأسئلة دون ردٍّ بل أجابت من خلال جمالها الغامض على كافة الأسئلة التي قد نتصورها و اقترن الاتجاه الجمالي بالنقد اللغوي في أسلوب القصيدة فهما مشتركان وقد تطلب النص قيمة صوتية وبلاغية لا يعدلها أيّ نصٌّ آخر لتمكن المبدع من تقنياته الفنية فقد وظّف ظاهرة التدوير و الدوائر الزمنية و إيقاع تفعيلة متفاعلن من البحر الكامل و مزج بين الخبر و الإنشاء و جدد في الصور الشعرية المبتكرة
و تأثر الشاعر بعالم الواقع من ناحية و بعالم اللاشعور من ناحيةٍ أخرى فشكلت في خصائصها الجوهرية الصورة الأولى المحركة التي منبعها حياة المبدع و أجمل ما في القصيدة إنها بدأت بالإمتاع و أنتهت بالمعرفة و الحكمة…
كل الاحترام للشاعر القدير الدكتور نزار بريك هنيدي
*المصادر:
1.هنيدي، نزار بريك (دكتور) مجموعة لا وقت إلا للحياة
صدر عن إتّحاد الكتّاب العرب، عام 2010
2…قصاب، وليد، مناهج النقد الأدبي، ص 67_71
3.وغليسي، يوسف، مناهج النقد الأدبي، ص 25_27.