نعمه العبادي
تغيرت مسميات توصيف الصراع مع اسرا-ئيل بطريقة دراماتيكية منذ اكثر من سبعين سنة، فهذا الصراع الذي كان يصنف في بداياته صراعا دينيا صرفا، يقوم على نزاع بين سرديتين تضاد احداهما الأخرى، حيث، تتحدث السردية الصهيو-نية آنذاك عن ارض الميعاد والشعب المظلوم واستعادة تراث الانبياء و… الخ، فيما تقابلها السردية الاسلامية والعربية بشكل مطلق بتكذيب وتفنيد كل هذه المدعيات، وعلى ذاك الاساس كان الصراع بين السرديتين، يحشد خلفه طيفا طويلا عريضا من المجتمعات ، ثم تحول الامر الى صراع سياسي اسرائ-يلي – عربي، وهكذا تغير مساره ليكون صراعا اسرائيليا – فلسطينيا جيوسياسيا، لتضيق دائرته فيما بعد، وينتهي الى صراع مجموعات ومناطق، ومع كل تحول تتبدل تسمية العدو من الكيان الصهيوني الى الكيان الاسرائيلي الى اسرائيل ثم دولة اسرائيل، وقد رافق هذا الامتداد الزماني، واقع متخم بالاحداث والتحديات والنكسات والانتصارات والصراعات، تختزله كلمة (الاحتلال).
انطلاقا من وعي هذه التحولات التي فعلت فعلها العظيم، حيث، انتهت الى ان تنظر دولة مثل المملكة السعودية بوصفها ارض الحرمين الى اسرائيل حليفا استراتيجيا، وتتسابق الدول لعقد الصفقات معها، في ظل صمت ورضى شعبي لدى طيف غير قليل من المجتمعات الاسلامية والعربية، الامر الذي جعل كل المقاربات، تتعاطى مع الوضع القائم، بغض النظر عن شرعيته وعدالته، والذي جعل كل القراءات التحليلية تنطلق من مسلمات الامر الواقع وتنتهي إليه، وهو ما يتطلب قراءات ومقاربات تتجاوز هذا الافق الضيق، وتنفصل عن مقننات الامر الواقع، وتعود لتأصيل الامور على اساس المبادئ والسنن.
ان مجموعة ضرورات تقتضيها مواجهة هذا الصراع، هي اكبر واعمق وابعد من الدوران حول ما يجري في غزة وان كان امره مهما، كما، انها اكبر واكثر اهمية من الحديث عن حل الدولتين او استشراف مسيرة توازن القوى وخارطة التحولات العالمية، وتتمثل هذه الضرورات في الآتي:
– إعادة تعريف الصراع، وتوصيفه توصيفا مناسبا يطابق حقيقته، وهي عملية: معرفية/سياسية/عقائدية/عملياتية، تقتضي، ان تنبري نخبة من المفكرين والعقائديين واهل الدراية والمعرفة، ومن خلال عمل جماعي، يعيد النظر في مسيرة التحولات التي قامت بإنتاج تعاريف مشوهة ومختزلة للصراع في ظل (بروباغندا العدو وتآمر الحكام وتراكم الهزائم والشعور باليأس والاحباط)، فضلا عن ابتعاد المحافل المعرفية عن الاهتمام بالقضايا المبدئية، ويتبع إعادة التعريف، خطاب متماسك، يمزج بين الوعي والعاطفة، ويستطيع هز جدار الصمت والتجهيل الذي تم تطويق الامة به، لكي تتبنى من جديد هذا التعريف ولوازمه.
– ان التفكير بالنصر بعيدا عن قواعد وضوابط السنن الالهية تجذيف عكس التيار، ومحاولات ساذجة تطلب النصر من غير مواضعه، لذا ينبغي، إعادة تدارس هذه السنن التي تناولها القرآن الكريم واحاديث العترة الطاهرة، حيث حددت الشروط اللازمة للانتصار، وبينت اسباب الهزيمة، واشارت الى مصادر القوة والمنعة، فأي معادلة للنصر في هذا الصراع، تستبعد الايمان بالله والاتكال عليه والوثوق بتأيديه، هي معادلة خاسرة وفاشلة.
– ان فصل هذا الصراع عن الصراع الكوني الاكبر بين الخير والشر، والايمان والكفر، وخط الله وخط الطاغوت، هو اخراج له من مكانه الحقيقي في خارطة الحراك الكوني الاكبر وبالتالي تقديمه بطريقة مشوهة وقاصرة، كما، ان قطعه عن حركة الانتظار الواعي لحكومة العدل الالهية، وضرورة سعي المؤمنين لتحقيق شرائط ظهورها، يبقيه في دائرة الفهم المحدود، ويجرده من الكثير من العوامل الاصيلة فيه، لذا فإن مهمتي موضعته في قلب صراع الطاغوت والايمان، وربطه باليوم الموعد، تتطلبان جهدا عظيما، وهما مهمتان إلهيتان تتطلبان قدرا عاليا من الوعي والايمان والثبات.
– مما لا شك فيه، ان المطالب التي تقع في طول هذا النظر العميق، مهمة ومحل اعتبار ورعاية، مثل حق الشعب الفلسطيني في حياة كريمة وحرة وبدولة سيدة نفسها، يعترف بها العالم وعاصمتها القدس الشريف، فضلا عن المتطلبات الاخرى، لذا فإن هناك تكامل ما بين هذه الاهداف المنظورة وبين الاهداف التي اشرنا لها في النقاط السابقة.
– ان الفهم السائد لانفاق الاموال التي تقدم لدعم المجتمعات والقضايا الحقة والمبرئة للذمة يدور في فلك مساعدة الفقراء والمساكين إلا ان دعم هذا المسار من القضايا وخصوصا المؤسسات التي تعيد تصحيح الوعي وتعريف الصراع واعادة ثقة الامة بنفسها وربط ذلك كله بالصراع الكوني الاكبر وحركة الانتظار الواعية، تمثل اسبقيات واهميات تفوق موضوع رعاية الفقراء، فالكثير من فقر الفقراء مسبب عن خلفيات وتداعيات هذا الصراع.
– ختاما لا بد من التذكير بأن الشعوب والشعوب وحدها هي المؤهلة لايجاد فارق حقيقي في مسيرة الصراعات الكبرى، وهذا ما تسالمت عليه سنن التاريخ.