م. ميشيل كلاغاصي
1/12/2023
في اليوم السابع والأربعين للحرب العدوانية الهمجية الشرسة التي شنتها قوات الإحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة, بعد عملية طوفان الاقصى، توصل الطرفان إلى هدنة مؤقتة ووقف مؤقت لإطلاق النار لمدة أربعة أيام, تحت عناوين تبادل الأسرى, وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
لا شك بأن الهدنة تبدو من نوعاً مختلفاً عن الهدن التي سطرتها جميع الحروب التي ذكرها التاريخ, والتي غالباً ما كانت تأتي في ظل إنتهاء العمليات العسكرية, وجلوس الجانبين المتصارعين على طاولة المفاوضات, لإعلان الإتفاق على حلولٍ سياسية, تكون مبنية على نتائج المعارك الميدانية, بما في ذلك للإعلان عن إنتصار أو حتى إستسلام أحد الأطراف.
كان لا بد للمقاومة الفلسطينية من إطلاق صرختها, كي تًسمع العالم وتعيد التذكير بما يتعرض له الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة, من ممارسات وجرائم يومية ايقترفها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني, ناهيك عن الحصار والظلم والعنف وتهديم للبيوت والإعتقالات دون أدنى سبب, بالإضافة إلى تمادي قواته ومستوطنينه بإنتهاك حرمة الكنائس والمساجد والمؤسسات, والإقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى, وبإستمرار سياسة قضم الأراضي وتهويدها وتهجير أهلها.
في حقيقة الأمر, أرادت المقاومة الدفاع عن نفسها وشعبها وحقوقها ومقدساتها ووجودها على أراضيها, أمام إعلان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تلك الخرائط التي رفعها في الأمم المتحدة, وكشف من خلالها عن النوايا والمخططات التي ستجعل من القضية الفلسطينية واقعاً يسهل معه تصفيتها, وحرمان الفلسطينيين من تقرير مصيرهم, ومن طاولة المفاوضات, التي يُفترض بها أ ن تُفضي إلى إيجاد الحل السياسي العادل والمنصف والمعلن والمدعوم دولياً للقضية الفلسطينية, وعليه كانت عملية طوفان الأقصى.
ومنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي الهمجي, تداعت عدة دول للتحضير للهدنة والمفاوضات, فيما سارعت الولايات المتحدة نحو فرض طريقة التعامل, وأعلنت دعمها المطلق وتأييدها “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”, والتحق بها عبيدها الأوروبيين, ومن أجبرتهم واشنطن على الإلتحاق بسياستها الخارجية, وبتأييد القضاء التام على حركة حماس وباقي فصائل المقاومة, وبخلق وابتكار صيغٍ دولية أو أممية أو حتى عربية لإدارة أمنية وسياسية جديدة في قطاع غزة .
لم يتأخر الأوروبيين أنفسهم, ومن دعموا “الإنتقام” والعدوان الهمجي الإسرائيلي, بالتراجع التدريجي أمام هول المجازر التي ارتكبها الأمريكيون والإسرائيليون, وأمام ضغوط التظاهر الشعبي في عواصمهم وحول العالم, غضباً واستنكاراً للعدوان الإسرائيلي الهمجي المتوحش, وأمام الأعداد المذهلة للشهداء والضحايا من الأطفال والنساء والمسنين, وأمام قصف البيوت والمشافي, واستمرار الحصار الخانق.
لقد طالب المتظاهرون وعشرات الدول حول العالم بهدنة إنسانية, وبوقف اّلة الموت الإسرائيلية, وبإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين المدنيين, وبإدخال المساعدات الطبية والإنسانية والغذائية والوقود والغاز إلى القطاع, من خلال مواقف إنسانية بحتة, واعتقدوا أنهم انتزعوا بموافقة الحكومة الإسرائيلية على الهدنة المؤقتة موقفاً إنسانياً أخلاقياً من الكيان المعروف بهمجيته وتاريخه الإجرامي, على الرغم من وصف وزير الدفاع الإسرائيلي في21/ نوفمبر عملية إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين في سجونهم بإنها “واجب أخلاقي للحكومة الإسرائيلية”.
بالتأكيد, لم تكن موافقتهم لأسباب إنسانية واخلاقية, بل لأسباب تتعلق بفشل وهزيمة جيش الإحتلال في التوغل البري, وبحجم خسائره العسكرية, وبإستمرار المقاومة بإطلاق صواريخها, ناهيك عن أرتفاع أعداد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف قواته, بالإضافة إلى الخسائر المادية والإقتصادية التي أصابت الكيان, وحالة الذعر وفقدان المستوطنين الشعور بالأمن والأمان على امتداد الكيان, ونزوح مليون مستوطن نحو العمق الإسرائيلي, ومغادرة نصف مليون اّخرين الأراضي المحتلة بإتجاه أوروبا وأمريكا.
أمورٌ بمجملها دفعت الكيان لقبول الهدنة المؤقتة, وبقبول إنكشاف ضعفه وفشله في تحقيق أياً من أهدافه المعلنة, وعلى رأسها القضاء التام والنهائي على المقاومة في غزة, مقابل رضوخه لإرداة المقاومة, التي منحت شعبها فرصة إلتقاط الأنفاس, ودفن الشهداء, ولم الشمل, وتأمين وصول الجرحى إلى المشافي, ودخول المساعدات.
إن سعي المقاومة للجلوس على طاولة المفاوضات ليس هدفاً بحد ذاته, بقدر ما تعنيه الهدنة المؤقتة من إختبارٌ وفرصة للعدو الإسرائيلي, كي يعيد حساباته وفق مجمل النتائج الميدانية لعدوانه الفاشل, والتفكير بواقعية لتحويل الهدنة المؤقتة المبتكرة, إلى هدنة دائمة, تفسح المجال أمام الحل السياسي المنشود والمدعوم دولياً, وما بين الإنتقال نحو الحرب الموسعة, التي ستكون كارثية النتائج بالنسبة للكيان الغاصب, وقد تكون الأخيرة له في هذا الصراع الطويل, على الرغم من الحسابات والعضلات الأمريكية والغربية عبر استجلاب البوارج وحاملات الطائرات والغواصات, بهدف التهويل وكرسائل تهديد مباشرة لمنع محور المقاومة من دخول المعركة, لكن رسائل المقاومة أتت أكثر وضوحاً وجرأةً وثباتاً في تصريح السيد حسن نصر الله بأن البوارج والحاملات الطائرات “لا تخيفنا وقد أعددنا لها العدة”.
استغرب الكثيرون بنود وطبيعة الهدنة المؤقتة, خصوصاً وأنها ترافقت بالوعود والتهديدات الإسرائيلية والتأييد الأمريكي, بمواصلة العدوان والعمليات العسكرية بعد إنتهاء أيام الهدنة الأربعة المتفق عليها, وبتأكيد نتنياهو بأن”تل أبيب ستواصل الحرب حتى تحقيق جميع الأهداف, وبالقضاء على حماس وبإستعادة جميع الأسرى، وضمان نهاية تهديد إسرائيل في غزة”.
على الرغم من البدء بتنفيذ بنود الهدنة, إلاّ أن العدو الإسرائيلي لم يلتزم بها, وحاول عرقلة وتأخير عملية تبادل الأسرى خلال دفعاتها الثلاث, وبعدم إلتزامه بالسماح لعدد شاحنات المساعدات المتفق عليه من دخول القطاع, وبالتحكم بحركة الفلسطينيين ما بين الشمال والجنوب, ناهيك عن محاولاته للتوغل في جنين وفي عدة مدن ومناطق في الضفة الغربية, وإعتقاله أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين.
إن مشهد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين, لا يمكن مقارنته بالمشهد ذاته على مقلب المقاومة, وقد تجلت صورة تعامل عناصر المقاومة الإنساني للمحتجزين الإسرائيليين والأجانب على مرأى ومسمع العالم كله, على عكس المعاملة الإسرائيلية للأسرى الفسطسنيين, في الوقت الذي خرجت فيه جموع أهالي غزة والضفة لإستقبال أسرارهم المحررين, وهم يهتفون للمقاومة, ويعبرون عن إعتزازهم وامتنانهم لسعيها وجهودها وتضحياتها من أجل إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية, وتم رفع الاعلام الفلسطينية وأعلام حركة حماس والقسام والجهاد الإسلامي وباقي الفصائل, وصور القادة, بالتوازي مع تظاهرعدد كبير من الإسرائيليين ضد نتنياهو ومطالبتهم برحيله ومحاسبته, وسط تحميله مسؤولية ما تعرضوا له.
ومع اقتراب مدة الهدنة المؤقتة من الإنتهاء, تضاعفت جهود المقاومة, والدول الراعية لإتفاق الهدنة, وإدعاءات الولايات المتحدة بممارسة ضغوطها على نتنياهو, بالإضافة إلى مواقف عشرات الدول الغربية والعربية والصين وغيرها, لتمديد الهدنة, والبحث عن المزيد من تبادل الأسرى.
لقد كشفت الهدنة المؤقتة, عن همجية الاحتلال وفظاعة المجازر, وحجم الدمار الهائل الذي تسبب به العدوان خلال خمسين يوماً الأخيرة, لكنها كشفت في الوقت ذاته عن الصمود والتلاحم غير المسبوقين عبر التاريخ, ما بين المقاومة والفلسطينيين, وإصرار غزاويي الشمال على العودة إلى بيوتهم ومنازلهم وهي المدمرة بالكامل, كذلك كشف حقيقة وجود وانتشار وسيطرة المقاومة على غالبية أراضي القطاع, الأمر الذي يؤكد أن الأمور تعود إلى مربعها الأول, وبأن المقاومة بخير وقدراتها بخير, وبأن العدو فشل بسحقها وبإستئصالها, وبتحويل غزة إلى أرض خربة خالية, وبأن المخططات الإسرائيلية والأمريكية – الغربية قد بُنيت على أوهام نتنياهو وأعتى متطرفي حكومته, وقد عبر رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل عن مدى دهشته بالمقاومة, وبأنها ليست مجرد مقاتلين, وإنما هي بحسب وصفه “فكرة وإيديولوجيا” تمتد على كامل الأراضي الفلسطينية, وعليه تبدو فكرة القضاء على المقاومة حلماً وهماً لمن نادى بها واندفع وراء سراب تحقيقها.
ورغم تمديد الهدنة يومين إضافيين, تبدو الكرة اليوم في الملعب الإسرائيلي المرتبك, وبات على قادته الإختيار ما بين تحويلها إلى هدنة دائمة, والإتجاه نحو الحل العادل للقضية الفلسطينية, وما بين تنفيذ تهديداته ووعيده بمتابعة العدوان على غزة, بمعنويات منخفضة وبأدٍ مرتجفة خائفة, وبجبهة داخلية رافضة للحرب, وبدون أدنى أمل بتحقيق تقدم أو إنتصار, وبدون رواية ودعم دولي معلن, وسيكون العدوان بهدف العدوان والإبادة الجماعية فقط, الأمر الذي لن يسمح به محور المقاومة مجتمعاً, وكذلك دول وشعوب العالم قاطبةً.
م. ميشيل كلاغاصي
1/12/2023