إعتياد الحرب
نعمه العبادي
تعد الحروب اقدم نشاط انساني اقترن بشكل مباشر بجانب من الطبيعة الانسانية، ودفعت بإتجاه تناميه وتطوره تعقيدات الحياة التي يعود محور ارتكازها الى قضية (الصراع/على – من أجل – حول – في)، وهذا الصراع بصوره المختلفة يمثل الوقود الذي تشتعل (به ومنه الحروب)، ورغم انها (اي الحرب) خلاف حالة الاعتدال والسلم التي يميل التكوين العام بطبعه إليها، وانها تمثل اعظم المخاطر التي ابتداعها الانسان لتدمير وجوده الفردي والجماعي إلا انها كانت ولا زالت موجودة ومستمرة، وتحدث بشكل منتظم ولأسباب مختلفة، إذ لم تستطع كل المجازر ومآسي الحروب ان تقدم درسا رادعا يوقف هذا الميل والشغف للعدوان والسيطرة واستخدام العنف والقوة.
تخلق الحرب مجتمعها واخلاقها وعالمها وطقوسها ومشاعرها وحياتها الخاصة، فكل شيء يتقيد بقيد الحرب، وعندما يضاف هذا القيد الى كل شيء يغدو مختلفا كليا، (نحن في حرب)، ومع استمرارها، يتنمط معها كل شيء تدريجيا حتى تتماهى الحلقات المتأثرة بالحرب بشكل تدريجي من الابعد عن اثر الحرب المباشر نحو الاقرب فالاقرب، ويبلغ التماهي ذروته عندما يعتاد الحرب المقاتلون فيها وكل اطرافها المباشرة.
اكثر الصور الاستفزازية والمقلقة للحرب هو الموت، فالحرب متشابكة مع الموت تشابكا وجوديا، وبما ان الموت هو الخطر الاعظم على الحياة، والاكثر إخافة للانسان، وهنا في مشهد الإخافة، تكون اسباب الموت هي مصدر هذه الاخافة، فإن هاجس القلق من الموت يواجه هذا التماهي والاعتياد، إلا ان الغريب في الامر، قدرة إعتياد الحرب يسري حتى على التصالح او التآلف مع الموت، ولعل الكثير ممن عاش تجربة الحرب ولامس وجود الموت الى جانبه، يفهم هذه الحقيقة التي اشير إليها، إذ تصبح المشاعر تجاه الموت خافتة وبسيطة، بل تنعدم احيانا جراء قدرة الانسان على اعتياده، لدرجة ان المقاتل يضع جثث الموتى من زملائه او من غيرهم وسادة ينام عليها في لحظة ارهاق تفتك بقواه.
تكمن خطورة اعتياد الحرب خاصة من الحلقات البعيدة في افول الصوت الرافض للحرب والمدافع عن وقفها انطلاقا من تحسسه المستفز لضميره ووجدانه للفضائع والمجازر والمخاطر التي تخلقها الحرب، وهكذا، تصبح اخبار الحرب مثل اخبار النشرة الجوية او اقل جاذبية، وينشغل الناس عنها بشكل تدريجي.
هناك اتجاه آخر، وهو اخطر من الاعتياد، يتمثل في الرغبة القصدية لإطالة الحرب نتيجة للمكاسب التي تحققها، لذا يكون التحرك تجاه كل شيء يخصها بطيئا ومقصودا في التسويف، ففي الوقت الذي تشتعل فيه الارض من الصواريخ والقنابل والدمار، ويسقط البشر دفعات جراء ويلات الحرب، يتحدث المعنيون بشؤون وقفها او على الاقل محاولة تحجيمها، عن لقاءات واجتماعات تجري بعد اسبوع او شهر او اكثر من ذلك، وهكذا، تصبح هذه المراوغة، بمثابة الامضاء لبقاء الحرب واستمرارها.
يعيش عالمنا حربين بارزتين بالاضافة الى حروب اخرى، وهما (الحرب الروسية – الاوكرانية) و (حرب غزة) وكلاهما تلاقفهما (اعتياد الحرب)، فربما نسي الكثير ان هناك حربا في اوكرانيا، وفي طريقهم لنسيان او اعتياد حرب غزة، وهي قضية تجعل الانسانية في خطر التآمر على نفسها بشكل عميق ومنظم.
لا تزال الادبيات تقدم الحرب بوصفها نشاطا سياسيا يأخذ طبيعة عنفية عدوانية، كما، ان مرتكز الرفض الانساني لمآسيها يقوم مرة على الوجدان الذاتي الذي يرفض الالم والاذى خاصة تجاه الابرياء، واخرى او معها الارتكاز الاول، على بعض الشرائع والقوانين التي تندرج تحت عنوان الحس الانساني العام في مواجهة الظلم والاضرار، ومع اهمية كلا المرتكزين فضلا عن مقاربة الحرب سياسيا إلا اننا بحاجة الى مقاربات جديدة تتحدث عن الحرب بشكل اعمق واكبر، وجوهر هذه المقربات يقوم على تفكيك الاسباب الجوهرية وترتيب حلقات المسؤولية على ان يتوسع في هذه الحلقات بناء على درجات الشراكة في القصد والاستفادة، وهذا الفهم يضع الحرب في نصابها الاوضح والادق ويفضح الكثير من الخنادق المستترة خلف واجهة الخندق الامامي، كما أنه يعيد تعريف المستهدف والمتضرر من الحرب بشكل يدخل ضمنه قائمة اوسع واكبر من اطراف الصراع الرئيسيين، وفي ذات الاتجاه يتم تقديم الحرب بوصفها جريمة تنتهك الحق العام في السلم، ويذهب هذا الفهم عميقا حين يربطها بفلسفة الوجود وموقف الإله منها، وهي مهمة، لن يقوم بها جنرالات الحرب ولا دهاقنة السياسة ولا حتى واجهات الدعوة للسلام، بل هي تحدي معرفي وانساني عميق، يقتضي مأسسة من نوع خاص غير ما هو معهود من المأسسة المقيدة ببيروقراطيتها.