د جبار البهادلي لنفحات القلم :
(النقد الأدبي ليس وظيفةً اجتماعية شائعةً, أو حرفةً مهنيَّةً كأيِّ المهن الحياتية الاحترافية الأخرى المتاحة.)
(يمكن لي أنْ أصفَ بدقةٍ مهمَّة الكاتب بعملية (الحياة الموت), فهو في احتضار ولادي دائم)
حاورته منيرة أحمد \ مديرة الموقع
قامةٌ فكريَّةٌ نعتزُّ بها ضيفنا الأديب الناقد المُبدع الدُّكتور جبَّار ماجد البهادليّ, مرحباً بكَ, وأهلاً.
= بدايةً نودُّ التعرَّفَ على شخصيَّة الدُّكتور جبَّار البهادليّ المهنيَّة والأدبيَّة…
هُويتي الشخصية التعريفية تُشير بإيجاز إلى أنَّي د. جبَّار ماجد البهادليّ, تولُّد تمُّوز (1964م) العراق مَيسان. قارئ وكاتب وأديب مهتمٌّ بشؤون النقد الأدبي الحديث من جَنوب قلب الوطن العراقي الكبير.وحاصل على درجة الدكتوراه العلميَّة في(اللُّغة العربيَّة وآدابها),قسم الأدب العربي, وتخصُّصي النقد الأدبي الحديث, وتخرجتُ في كُليَّة الآداب/جامعة عين شمس بمصرَ.وأعتزُّ كثيراً أنَّني أحدُ تلاميذ أعلامِ هذه الكُليَّة ورجالاتها وأساتذتها وقاماتها العلميَّة والأدبية والثقافية الإبداعية المهمَّة في الوطن العربي الكبير. ولي نتاجات علمية أدبيَّة وإبداعية عدَّة في حقل الأدب والنقد العربي الحديث. وأعمل حالياً أُستاذاً تدريسيَّاً أكاديميَّاً وتربويَّاً في تعليم الفُنون الجميلة بالعراق.
= ما الذي جعلكَ تمتهنُ اختصاصَ النقد الأدبيّ؟ وما رصيدُ الناقد التحصيلي من خلال ما ينقدهُ؟
على الرغم من أنَّني في مُستهل بواكير كتاباتي الأوليَّة لم أُسمِّي نفسي ناقداً مُطلقاً, غيرَ أنَّ الأدباء والمُثقَّفين المُهتمين بالإبداع الفنِّي والجمالي هُم من أطلقوا عَليَّ صفة(الناقد) المُختصّ, وهو تشريفٌ أدبي ذاتي لا تكليفٌ رسميّ. فأنا أُؤمن إيماناً بالغاً وشديداً بأنَّ الحبَّ والرغبة والاستعداد المُكتسب والثقافة والكفاءة العلميَّة, هي المِهْمَازُ الشُّعوري الأوَّل الذي مَهَّدَ لي الطريق مُعبَّدَاً إلى مرايا النقد الأدبي, وليس الدراسة الأكاديمية العلمية وحدها هي من حضَّتني إلى هذا العالم الواسع الدقيق. لأنَّ ليس كلُّ دارسٍ أكاديميٍ لمناهج النقد الأدبي يُعدُّ ناقداً, فالنقد مهمُّة ثقافيَّة وعلميَّة شاقَّة. أمَّا رصيد الناقد التحصيلي من نتاج نقده, فهو كلَّما غاصَ الناقد في بحر نقده اللُّجي عميقاً وجدَ نفسهُ سبَّاحاً مُبتدئاً غيرَ عائمٍ بِمَهارةٍ وحنكةٍ في مرافئ النقد, فما زال قائماً في رصيف شحنه الساحلي, فالنقد ثقافةٌ واسعةٌ, وموهبةُ مَلَكةٍ روحيَّةٍ, واستعدادٌ مَعرفيّ مُكتسب, وعلمُ درايَّةٍ مُمنهجٍ.
= النقد الأدبيّ مهمَّةٌ صعبةٌ من جهة القُدرة على تفكيك النصِّ الأدبي المُراد نقده وتحليله, ومن جهة أخرى حيادية المشاعر الذاتية تُجاه النصِّ الإبداعي, ما قولك بهذا الرأي ؟
النقد الأدبي ليس وظيفةً اجتماعية شائعةً, أو حرفةً مهنيَّةً كأيِّ المهن الحياتية الاحترافية الأخرى المتاحة؛ لذلك تكمن صعوبتها الابستمولوجية التحليلية والتفكيكية في كونها رغبةً احترافيةً إبداعيةً وموهبةً فنيَّة واستعداداً فكرياً ابتداعياً ألمعياً مضيئاً على إبداعٍ فكريٍّ أدبيٍّ نصيٍّ أخر موجَّهٌ سياقياً ونسقيَّاً بالدرجة الأولى إلى المُتلقِّي والقارئ المثقَّف الواعي (الناقد) الذي ينظر بتؤدةٍ لحُمولات النصِّ الأدبيِّ بعين نقديةٍ ثالثةٍ. وذلك كلُّه يتطلَّب من الناقد الأمين الفذِّ الحاذق أنْ يكون ميزاناً شرعياً للحقٍّ والعدل والانصاف, وأن يقف موقفاً موضوعياً في منطقة الحقٍّ الوسطى من الحيادية والاعتدال, والَّا يكون تقصديَّاً مُجاملاً لطرفٍ خفيٍّ على حساب الطرف الآخر في حفرياته النقديَّة لنصوص المقدَّس والمدنَّس والجمال والقبح. ولا يمكن انْ تتحقَّق مثلُ تلك الصفات والمزايا النقديَّة لميزان النقد العادل إلَّا من خلال جَلدِ الذّات الأنويَّة الناقديَّة, والتحرُّر الظاهري من الميل للاسميَّة الشخصيَّة المَقيتة, والابتعاد عن المشاعر العاطفية والمُحاباة والأهواء الشخصية والمحسوبية التي تقتل جماليات النصَّ الرِّسالي وتُسيء لِمُنتجه المُبدع. هكذا يكون الناقد النموذجي الحقيقي وإلَّا فلا.
= يجبُ أنْ يمتلكَ الكاتبُ مُتحفاً للمعلومات, وأنْ تكون طريقة توظيفه لها هي عنوانه وميزانه.
يمكن لي أنْ أصفَ بدقةٍ مهمَّة الكاتب بعملية (الحياة الموت), فهو في احتضار ولادي دائم, وهو الذي يَخلقُ من العدم وجوداً ومن الموت حياةً (أكون أو لا أكون). ولا تتهيَّأ مثل تلك المكتسبات الكتابية الفنيَّة إلا من خلال رصيدٍ ضخمٍ وهائلٍ من تلقي المعلومات والمعارف الابستمولوجية الثرَّة التي بها يُعمِّرُ هَندسةَ بناءِ مُتحفه النصِّي, وَيُديمُ طريقة أسلوبه الكتابي الإبداعي التي هي عنوانه.
امَّا الكاتب الناقد فمهمته أصعب بكثير, ويمكن أنْ تكون مهمَّة عسيرةً. فالناقد الأدبي كالقابض على الجمرة في نار النصِّ الأدبي المتَّقدة اشتعالاً, فإنْ تمكَّن من الإمساك بتلابيب أطرافها النصيَّة نقديَّاً والتَّحسُّس بلسعات سعير حرارتها اللَّاهبة, أجادَ فنيَّاً الإمتاع بدفء لظى أوارها الملتهبة, وأبانَ جمالياً الكشفَ عن بؤر انطفاء جذواتها النصوصيَّة الخافتة. وإذا لم يستطع الإمساك تفكيكياً بشفرات النصِّ (الحمراء المجمرة) التي تستدعي صبراً طويلاً ودربةً ونباهةً ألمعيةً وَظَفرَاً مُخلَّقاً فَالأَوْلَا والأجدر بهِ التَّنحي عن تلك المغامرة الفاشلة؛ لأنَّ (النّاَرَ تأكلُ بعضَها إنْ لم تجدْ ما تأكلهْ). فهذا يعني أن الكاتب المبدع أو الناقد الحصيف المُلهم لابدَّ أنْ يكون مَنجمَ خامٍ عميقاً للوعاء الفكري وخزانةً معرفيَّةً نوعيةً وكميَّةً ثّرَّةً من المعلومات المُفيدة والنافعة التي تُستخدم في بناء النصيَّة.
= كَيفَ تَبدو لكَ الكتابةُ الخَياليَّةُ في الوقتَ الحالي؟
مفهوم الخيال أو ما يسمَّى بـ(المِخْيَال الأدبي الشعري),هو من أبرز مزايا الكتابة الإبداعيَّة. ويُعدُّ نوعاً مهمَّاً من أنواع الكتابة الإبداعية المائزة الإمتاع. وهنا لا بدَّ من التفريق الدقيق بين مفهومي الكتابة الإبداعية والكتابة الخياليَّة. فالنصُّ الأدبيّ أيَّاً كان جنسه الإبداعي شعراً أمْ نثراً,(قصةً أو روايةً أو مَسرحيةً أو مقالةً), والمشتملُ على عنصر الخيال الفنِّي يُسمَّى فنيَّاً بـ(الكتابة الإبداعيَّة).
أمَّا الأعمال الفنيَّة الأُخرى التي تعتمد مضامينها الفكريَّة على شخصيَّاتٍ علميَّةٍ خياليةٍ وهميَّةٍ, وتتَّخذُ من تقنيَّة الخيال الفنِّي مُحوراً أساسيَّاً فنتازياً يرتبط بالواقع يسمَّى بالكتابة الخياليَّة الصِّرفة. وعلى وفق هذا التفريق الفاصل بين حدَّي الكتابتين الإبداعية والخيالية, يُعدُّ عنصر الخيال الفنِّيِّ من أمتع عناصر الكتابة الأدبية التي ينحرف فيها الكاتب إلى لُغة الانزياح التعبيري والتصوير المخيالي الفنِّي العاطفي.وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ من القُدرة البلاغية والأنساق الثقافية التَجدُّدية.
=لأيَّةِدَرجَةٍ يَدخلُ التكوين الداخلي لشخصيَّة الكاتب في شخوصه وأعماله أو نصوصه الشعريَّة؟
إنَّ التكوين الداخلي لشخصيَّة الكاتب في اختيار شخصياته الموضوعية وأعماله الأدبية, وتوظيف نصوصه الشعريَّة يعتمد بالدرجة الأولى على سايكولوجية الشخصيَّة التي هي فرع من فروع علم نفس الشخصيَّة التي ترتكز على مجموعةٍ كبيرةٍ من الخصائص الديناميكية المُنتظمة التي تمتلكها الشخصيات الفرديَّة المؤثِّرة في محيطها البيئي والإنساني الخارجي, والمتأثِّرة به شعورياً وعاطفياً وسلوكيَّاً. لذلكَ فإنَّ الفواعل الشخصيَّة الأدبيَّة المؤِثِّرة والمتأثِّرة, والنتاجات الفعلية الإبداعية الشعرية التي يشتغل عليها الكاتب المرسل ويوظِّفها رساليَّاً في نصوص مشغله الفنِّي الإبداعي هي استحضار حقيقي واستدعاء فعلي لعقابيل راهن الواقع المعيش, وهي مرآة تصويريَّة عاكسةٌ لحال رهانات الواقع وتحدياته المصيرية, وتحوِّلاته المجتمعية السريعة في شتَّى الصُعُد والاتجاهات.
= ما الوظيفةُ الأساسيَّةُ الَّتي يُؤدِّيها الخيالُ العِلمي في الأدب ؟
لا شكَّ أنَّ الفنَّ الذي يعتمد أُسه الهرمي وأساسه التأصيلي على عنصر الخيال العلمي-كما أسلفنا- يُعدُّ نوعاً خاصَّاً من أنواع الفنِّ الأدبي, ولا سِيَّما الفنُّ السينمائيّ الذي تُبنَى فيه فحوى أو فكرة الحكاية القصصيَّة الخياليَّة العلميَّة على مجموعةٍ من المكتشفات الحداثوية والمخترعات والتقنيات الفضائية, وتوظَّف فيه التغيُّرات الاجتماعية والبيئية الخارجية المحيطية. أمَّا الوظيفة الأساسية التي يؤدِّيها الخيال العلمي فَهيَ كونهُ أحد منجزات العصرنة الحديثة ومدخلاتها العلمية المهمَّة في تنمية المواهب العقلية وصقلها فنيَّاً, ورعاية الإبداع البشري والاهتمام به وتوجيهه, وإعداد جيلٍ علمي مستقبلي واعٍ ومتقدِّمٍ في مختلف مجالات تكنلوجيا الحياة والبحث وعلوم التفجير المعرفي الهائل.
= يرى الكاتب البريطاني هنري جيمس أنَّ الوظيفةَ الأولى للرِّوائي هي أنْ يُحقِّق المتعة للقارئ.. ماذا عن بقيَّة الأجناس الأدبيَّة الإبداعيَّة الأُخرى؟
إنَّ توصيف هنري جيمس الكاتب البريطاني ذو الأصول الأمريكية الدقيق بتحقيق فعل المُتعة الذهنية والنفسية للقارئ.هي في الحقيقة من أساسيات المَهام والوظائف الأوليَّة التي يقدِّمها الروائي سرديَّاً إلى المتلقِّي؛وذلك من خلال نظريات القراءة وجماليات التلقِّي الفكري, فَلمْ يأتِ تأكيده جزافاً من فراغ أو شعورٍ عابرٍ,وإنَّما جاء سَدادُ رأيهِ عن وعي وإدراكٍ وتمحيصٍ ومخاضِ تجربةٍ عسيرٍ.
فالروائي هنري جيمس بوصفه مؤسِّساً تأصيليَّاً كبيراً للمدرسة الواقعية في الأدب الخيالي, وأبرز كُتَّابِ وأساتذة الفنِّ الروائيّ والقصصيّ, كيفَ وصل إلى هذه المنزلة الرفيعة بهذا الأدب إذا لم يُحقِّق المُتعة الفكرية السرديَّة لقارئة الواعي الذي يجد نفسه في ثنايا أعماله الروائيَّة والقصصيَّة والمسرحيَّة الهادفة. هذا على مستوى التجنيس السردي للنثر, أمَّا على مستوى أجناس ألوان الشعر الثلاثة, سواءٌ أكان شعراً عموديَّاً أو تفعيليَّاً حُرَّاً أو قصيدةَ نثرٍ, إذا لم يحقِّق الشاعر الألمعي المتعة والفائدة والإدهاش المفاجئ المثيرَ الصادمَ للنفسِ لم يَعُدْ جنساً من الشعر, بل يعدُّ هذياناً وإسهالاً لفظياً ممقوتاً, ومجردَ خواطر فكرية عابرة. لذلك كُلَّما اتَّسعت مِساحةُ المتعة في القراءة واشتدَّت, اتَّسعت وازدادت الرغبة النفسية والارتياح لهذه المتعة الروحيَّة في التواصل مع ثيم العمل الأدبي.
= ماذا عن تقنيةِ تَشكيلِ العملِ الأدبيّ؟ وهل الاستعارات البيانية المطوَّلة مُرحَّبٌ بها نقديَّاً برأيكَ؟
العمل الأدبي الرصين القائم على لسانيات السَّبك اللُّغوي والحبك المعنوي في فنيَّة التعبير الأدبي لا بُدَّ من تشكيله نصيَّاً وتنويعه فنيَّاً وجماليَّاً, سواءٌ أكان شعراً أم نثراً, ولكنَّ الغلبة في قصدية ذلك التوجُّه تكون لفنيَّة التعبير الشعري أكثر من النثر. وذلك لكون البناء الشعري يتطلَّب تلك التقنية من التلوين الفنِّي في الهندسة المعمارية لشعرية القصيدة. أمَّا بخصوص الاستعارات البيانية المطولة, فإنَّ مفهوم الاستعارة بشكلٍ عامٍ في المنظور البلاغي القديم يعني ضرباً من المجاز اللُّغوي القائم على علاقة المشابهة بين الطرفين(المُشبه والمُشبه به) مرحبٌ بها أكثر في أبجديات الشعر التقليدي التُراثي. أمَّا في التقنيات المعصرنة للحداثة الشعريَّة فإنَّ الشاعر يجنح إلى أساليب البلاغة الجديدة. أي يميل إلى بلاغة الانزياح التعبيري اللُّغوي المجازي الأكثر قبولاً وإمتاعاً واستئناساً فنيَّاً حسناً.
= قرأتُ لأحد النُّقَّاد مادةً تناول فيها موضوعاتٍ عِدَّةً , وإنَّ ما لفتَ نظري فيها قوله: ظهور ما يُسمَّى بـ(القصيدة النثريَّة). ما ذا تقول عنها؟ وهل تُعطيها هُويَّةً خاصَّةً؟ ولماذا؟
قصيدة النثر الشعرية الجديدة, إذا صحَّ التعبير عنها بـ(قصيدة النثر البَكماء) التي تَحوَّلَ الكثيرُ منها بسبب شِعريَّة بعضِ المُتشاعرينَ من المُتشدقينَ والمُتنطعينَ بتلابيبِ الشِّعر إلى جعجعة أصواتٍ كلاميَّةٍ ناشزةٍ وهذياناتٍ نفسية جوفاء, وطلاسمَ وأحاجٍ شعريَّةٍ مُبهمةٍ غير مفهومةٍ تحتاج إلى جهد كبيرٍ في تفكيك شفراتها الغموضية. ولا طائل من وراء قصديتها سوى إنَّها تقع تحتَ مظلةٍ نتاجات الحداثة الشعرية. وهي في حقيقة أمرها إحدى منجزات الغرب الأوربي الحضاري التي وصلت إلينا تقليدياً؛ نتيجة التحوِّلات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية السريعة, وتبعاً للتغيُّرات الفكرية والمذهبية والأدبية التي طرأت على هاجس التجديد في الشعر العربي.
وقصيدة النثر عند ظهورها لأوِّلِ وهلةٍ في العالم العربي كانت تُسمَّى بـ(النثر المركَّز), أو الشعر الجديد المنثور, وبرزت على وجه الخصوص عند شعراء كُبَار في العراق ومصر ولبنان وسوريَّة؛ نتيجة التواصل الفكري مع التيارات الشعرية الجديدة التي حدثت بفترة وجيزة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, أي في النصف الثاني من القرن العشرين؛ بسبب تغيُّرات الحداثة التي مهَّدت للشعر العربي الحديث إلى ما وصل إليه من تحرُّر وانفتاح. فإذا كانت القصَّة القصيرة تشكِّلُ برأيي أصعب الأجناس السردية كتابة وأداءً فنيَّاً مُبرَّزاً, فإنَّ قصيدة النثر الشعرية تُعدُّ من أصعب وأدقِّ وأمهر ألوان حداثة قصائد الشعر العربي الثلاث(العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر).
وقصيدة النثر على الرغم من كونها تفتقد في بنائها التوظيفي إلى بنية التشكيل الإيقاعي والوزني وبنية التقفية على المستوى الإيقاعي الموسيقي الخارجي. والتي يستسيغها الكم الكثير من الشعراء الشَّباب ممن لا يُجيدون تقنيتي الوزن والقافية ظنَّاً واعتقاداً منهم أنها سهلة التركيب اللُّغوي ومتاحةً للجميع ولا تحتاج لجهدٍ فكريٍّ أو وزنيٍّ كبيرٍ يَحكمُها بضوابط وقواعد تنظيمية والحقيقة غير ذلك.
بيدَ أنَّ قصيدة النثر الشعرية الحديثة إذا أُحسن استخدامها وتوظيفها توظيفاً مهاريَّاً وفنيَّاً لامعاً لا يمكن التقليل من شأنها التجديدي الذي يجعل ما لها, وما عليها, فهي لها آلياتها وقواعدها التعبيرية الصحيحة, ولها اشتراطاتها الفنيَّة الدقيقة في الكتابة الشعريَّة.وحقيقةً أنَّ قصيدة النثر الشعرية تعتمد في بنيتها التركيبة والأسلوبية على عناصر أساسية عديدةٍ ترتكز عليها, نذكر منها وحدة الموضوع التي ترتبط روافدها الفرعيَّة بالوحدة العضوية الكبرى للقصيدة, وعنصر الجِدَّة والتجديد الفكري والترميز الفنِّي الهادف, لا التعقيد المعنوي واللُّغوي المُحكم, والغموض المُبهم المُستغلق, ولا التشتت الفكري, بل اعتماد التشعير الإيحائي والتلميحي والإشاري السيميولوجي الذي يستند تركيبه الشعري المكين إلى الصور الشعرية المفردة, ويعتمد بناؤه الشعوري المتكامل على سعة تناميه الفكري. فضلاً عن جماليات التكرار الفنَّي,وتأكيد على الأسلوب الإيقاعي الداخلي الآسر الذي يُخَلِّدُ النصَّ ويلفت نظر المتلقِّي المثابر, ويجذب انتباه وعي القارئ فيرتاح إليه نصيَّاً ولغوياً وتركيبياً.
= الروائي والناقد الإيطالي (أُومبرتو إكو) يتحدَّث عن فضاء النشر الحالي وانخداع بعض الكُتَّاب بأنفسهم, حتَّى وصل بهم حدُّ الغُرور فيقول:(( إنَّ أدوات التواصل الحديثة منحت الحقَّ لفيالق من الحمقى كانوا يتكلَّمون في الحانات بعد تناولهم السُّكر, وكان يتم إسكاتهم فوراً, أمَّا الآن فأصبح لهم أن يتكلموا مثل من يحملُ جائزةَ نوبل للآداب)).
– إنَّ هذه العبارة القاسية المقتطعة من إحدى رواياته, والتي تنحو منحىً نقديَّاً وانتقاديَّاً بارعاً لاذعاً تُحدِّد نوعَ وبؤرةَ هذهِ المُشكلة. إذن المشكلة هي ليست لغة دون لغةٍ, ولا أدبٍ دون أدبٍ آخر, بل هي فعل عشوائي عالمي كونيَّ. ما تعليقك على هذه الرؤية السَّرديَّة النقديَّة الفاحصة؟
انخداع بعض الكتَّاب كثيراً بأنفسهم نتيجة الإحساس بالخيبة والفشل والخذلان والنكوص الأنوي, ودافعية الشعور بالرغبة الجامحة إلى الغرور النفسي, والتكبُّر وهيمنة الروح النرجسية المتعالية, هي من أسوأ المزايا والخصال غير التأصيلية أو الحميدة المَعيبة الذائعة الشيوع حديثاً في مشهدية فضاء النشر الكتابي الإبداعي الحديث المحكوم بعوامل الفشل الكثيرة التي حدَّدها الفيلسوف والكاتب والروائي والناقد الإيطالي (أُمبرتو إيكو). والتي ظهرت بوادرها الجمَّة تلوح في الأفق الأدبي سريعاً كانتشار النار في الهشيم؛ جراءَ كثرة وسائل الإعلام والتواصل الفكري والثقافي والأدبي والاجتماعي والإعلامي الحُرَّة التي لا ترتبط مؤسساتها الثقافية برقيبٍ أو عتيدٍ يحاسبها.
ولا حتى بواعز أخلاقي أو تشريعي أو ضابطٍ قانوني رائج يقف حائلاً عنها, ويُحِدِّدُ أُس المشكلة السائبة ويكبح ديستوبيا جماح حمقاها الفوضوي في نصوص يوتوبيا مدن الزمان والمكان, والقبح والإحسان, والإقدام والإحجام, والقداسة والدناسة, والنجاح والفشل, والحقّ والباطل, والراسخ وغير الراسخ, بعد أنْ كانت أصواتها الناشزة محصورةً في بنية زمكانية ضيِّقة,أو بؤرةٍ حاناتٍ لا تسمح لمثل هذا الغثِّ الديستوبيوي الرديء النابح بالانتشار السريع على حساب الممتلئ المتواضع الثقيل. ذلك العشوائي الذي يواجه بواعز الفعل الأخلاقي والفكري ونواميس التأثيث الفكري للنشر الكتابي الإبداعي الحقيقي الذي يحارب بصدقٍ أدب الوجبات السريعة ويلجم ثورة فعلها العشوائي المُشين.
أمَّا كيف يواجه مثل هذا الحدث الفعلي غير الإبداعي الجافي زبداً وغير الماكث حدَّهُ الأرضي زماناً ومكاناً, فأقول جازماً حاسماً إنَّ الأدب الرفيع القارَّ فضاءً يسمو عُلواً ويرتقي مهابةً سُلَّمَ فضاء ذلك الأدب العشوائي الوضيع الفار هزيمةً وارتكاساً. ولا مكان لانخداع الحمقى من الكُتَّاب ولإيهامهم الذاتي وغرورهم الشخصي في مثابات الأدب الإبداعي السامي الفنِّي الراسخ الإنتاج. ولا يمكن أنَّ تحلَّ لغة الأدب الركيك الصائح محلَّ لغة الأدب المحكي التأصيلي المكين الفالح. ولا وجود لأثر فعل خبط عشواء في فضاءات جدار الإبداع والوجود الكوني وكما تقول حكمة الشاعر:
لا رأيَ لِلحقِّ الضَعيفِ وَلَا صَدَىً الرَّأيُ رَأيُ القَاهرِ الغَلَّابِ