أغاني الصبا
……………
دراسة نقدية تحليلية لمجموعة أغاني الصبا للشاعر الدكتور جليل البيضاني( ظهور النبوغ الشعري_ سمات و مزايا)
دراسة د آسية يوسف .
الشّاعرُ هو الّذي يتحكّم بزمام الّلغة و المجتمع، ويكفيه فخراً أنّه سفير الكلمة من جمودها إلى حيويتها ومن معجميتها إلى اصطلاحها، والشاعر د. جليل أخرجها من قوقعتها إلى عالم الحياة و ألقى بها في القلب لتأخذ معانيها المتعددة بتعدد المتلقين، هكذا هو الشّاعر فكيف إذا كان شاعراً يكتبُ في معية الصبا بأحاسيسه ترجمان ذاته و شعوره فالمجموعة التي بين يدي تتألف من مجموعتين (مسافرٌ حبيبتي /١٩٨٨) و (منكِ أبدأ/١٩٩٠)
فقد مرَّ بظروفٍ ماديّة باع بسببها مكتبته، وكان في المكتبة نسختان من كلّ مجموعة و فُقِدت المجموعتان وفي جلسة أصدقاء ذكر هذا الموضوع أمام صديقه اللواء الطبيب (سعد الصالحي) فقال إنّه أهداه نسخة و أعادها إليه، ولما ذكر الموضوع أمام عائلته ذكرت ابنته المهندسة ( رنا جليل Rana Jalil) إنّه أهداها المجموعة الثانية وعثرت عليها وقدمتها له، و لما عثرتُ في مكتبته على النسختين القديمتين قرأتها و شجعته على إعادة طبعها رغم تردده لأنّه يعتبرها ركيكة في البناء و الصورة الشعرية إلاّ إنّي وجدتها تجربة فنيّة مكتملة بالنسبة لشاعرٍ في بدايات تجربته الشعرية فقد كتبَ ( مسافرٌ حبيبتي) في الثامنة عشرة ( ومنكِ أبدأ) في العشرين و بعد تدقيق المجموعتين شملهما ب ( أغاني الصبا). وهي تجربةٌ حيّةٌ و صادقةٌ عن أحداثٍ مرّت به فصاغها قصائدَ وجدانيّة تنوّعت بين القصيدة العمودية و قصيدة التفعيلة التي كانت سمة المرحلة و تقع المجموعة في واحد وستين قصيدة من القطع الأوروبي
و قدّمها بإهداء إلى أبيه الّذي قادَّه إلى دروب الشّعر، و الثانية إلى أمه سيدة العاطفة و هودج الأحزان.
و الدكتور جليل في مجموعته يمتلك وجوداً جمالياً و إحساسَ العالم لأنّه يصهره في بوتقة ذاته ويستجمع تجاربه فيه فهو ينفر من كلّ قبيحٍ يمكنُ أن يحدثَ في الوجود لأنّه يجسّد الجمالَ و الحبَّ وهذا ما جاءَ في( مقدمة للحزن) إذ كتب:
يسرقُ الحزنُ دواتي
يتسللُ في الكتاباتِ
فيغتالُ القصائد
و د. جليل يحملُ هويةَ نفسه حين يدخلُ إلى مقصورات الفنّ الإنسانيّ وهي إنسانيته الطبيعيّة اّلتي لا يشوبها كدر الدنيا، إنّه يريدُ أن يبثَ الحياة في هذا الوجود وهل الحياة إلاّ تجسيد الجمال بكلّ معانيه، وهذا ينساقُ على كلّ نتاجه الشّعريّ، إنّه مسكونٌ بالهمِّ الإنسانيّ و الحزن و الجمال وينفرُ من كلّ ما هو رديءٌ إنسانياً و سياسيا؛ فهو متمسكٌ بقوميته ووطنه كما بإنسانيته و استخلصتُ بعضاً من سمات ومميزات شاعريته في (أغاني الصبا) :
*الصدق و العفوية وهما المقاربة الحقيقية لقانون الجمال الفنيّ الذي يستمدُ سماته من الطبيعة الّتي هي عفوية في ذاتها.
*المزاوجةُ بين المحسوس و المعقول في تمثلِ الفكرة في حسن الصياغة و رحابة المعنى.
*تمثلُ الجمال المعنوي في كلّ موضوعٍ يعالجه.
*الانسياقُ الفنّيّ التعبيريّ في القصائد العمودية وقصيدة التفعيلة دونَ أن يلهثَ وراء التركيب أو القافية.
*سيطرةُ نبرة الحزن في قصائده كافةً، وهذا الحزن قادمٌ من توهج نفسه بالحبّ و الخير ونفوره من كلّ ما هو قبيحٌ وقد استخدم كثيراً روي النون و الراء إذ تحمل من نفِس حزين يشبه أنين الشجن.
*الترابطُ المعنويّ في الصوغ الشّعريّ الّذي يدلّ على الاقتصاد اللغويّ في التعبير.
*الواقعيةُ في الاستجابة الفنيّة لما يريدُ التعبير عنه.
و ربّما لديه سماتٌ و ميزاتٌ أبعد أثراً في ذات المتلقي الباحث عن المعنى الأخلاقي و شفافية الكلمة الّتي يقتنصُ معناها من تلقاء ذاته… و للشاعر د. جليل مفاجأته الفنيّة اّلتي تبهجُ المتلقي و تثيرُ فيه طموحاتٍ تمثلُ الفنَّ الأسمى في رؤاه و معانيه مما يحدو بنا إلى مواكبة المجموعات القادمة للشاعر على لهيبِ صبرِ الانتظار و سنقرأ له قريبآ مجموعة ( حنظلة) التي وصلت مرحلة النضوج الشعري.
و أخترت قصيدة توضح ثراء شاعرية المبدع د. جليل ( منذ زمن بعيد) وهو في التاسعة عشرة من عمره وكأنه يتحدث عن خبرة حياتية طويلة الأمد وكأنه عاش عمراً من التجارب على صغر سنه آنذاك، وتدهشنا البداية بقوله/:منذ أن أبَّنْتُ نفسي /و أبّنتُ الرجل تأبيناً إذا مدحته و ذكرته محاسنه و أثنيت عليه بعد وفاته، وقيل:أبَّنه مدحه وعدَّ محاسنه وهو من باب التقريع؛ وتأتي بمعنى عابه في وجهه وعيّره.. وربّما جاء التأبين بمعنى اقتفاء الأثر و ترقب الشيء.
والشاعر يأبّن نفسه بإيحاءٍ عن تقريع الذات أو إعلان الموت قبل حدوثه،
/ثمّ أسرجت خيولي/في كناية عن الاستعداد للسفر… واسراج الخيل قديماً يدل عن الجاهزية للرحيل،
/و تزَوّدتُ بيأسي/فالشاعر قد اتخذ زوادة هي اليأس بعد قطع الأمل والزوادة ما يحمله المسافر من طعامٍ قليل لكن الزوّادة هي اليأس فالمبدع يختار مفرداته دالاً على الحالة النفسية التي يعاني منها، ثم يسترسل/منذ أن جئتُ إلى الدنيا، وفي كفَّيّ نحسيّ/ و منذ التي تفيد معنى الظرفية في الزمن الماضي تؤكد عمق تجربته فمنذ ولادته وهو يعاني سوء الطالع.. في كفّي نحسيّ
/منذ أن حطّمتُ كأسي _و أنا ظلٌّ لأمسيّ/وتحطيم الكأس دليل على ترك الشرب و اللهو و ترك الملذات الدنيوية فالشاعر ترك المتعة و أصبح تابعاً ( ظلاً) لأمسه للأحداث التي جرت في الماضي و يفسر ذلك بقوله:/لا حنينٌ، لا بكاءٌ
لا دموعٌ واشتياقْ، لا مواعيد وذكرى، لا لقاءٌ أو فراق.ْ
لستُ في لُجّةِ بحرٍ
أو بأثوابي احتراق/
تكرار لا النافية للجنس أبطل عملها فجاء بمجموعة من المشاعر منها الحنين و البكاء بسبب الحزن و كذلك الدموع بسبب الشوق.. و أنكر على ذات المواعيد و الذكريات.. ونفي كينونة اللقاء أو حتى الفراق
فلم يعدْ يعوم في اليم او بين أمواجه و لا يعاني احتدام المشاعر واشتعالها أما الأسباب فهي ذروة الخط البياني العاطفي وكأنّ المبدع يجهش بالبكاء قائلاً:/منذُ أن جاءوا بمن أهوى قتيلاً
و أنا أضجر من كلِّ عناق/
حالة اليأس وفقدان الأمل و السفر و اللامبالاة جاءت بسبب موت من يهوى وقد أصابه النفور من كل ما يتقرب إليه
أو يضمّه إليه مهما كانت حالته. /منذ أن ألقيتُ شعري في البحار /ما زال المبدع يصوغ الذكريات و كأنّه السندباد البحري الّذي عانى من مغامراته السابقة؛ فألقى بدلَّ ياطر السفينة أشعاره علَّ مركبَ خاطره يهدأ:
/منذ إن جئت إلى المسرح وحدي
و لعبت الدور وحدي
و أسدلت الستار/
مدهشٌ هذا الشّاعرُ الفتيّ الّذي يستفيدُ من كلّ معلومة، و يوظّفها في تجربته الفنيّة؛ فالحياة مسرحيةٌ لعبَ فيها دورَ البطولة منفرداً مما يؤكدُ شعورُه بالوحدة و إغتراب الذات، /و أسدلت الستار / السياق يمنح المتلقي بعداً ثالثاً بين السطور.. ربّما موت من يهوى بفقده معنوياً وليس مادياً(فعلياً) و يؤكد ذلك قوله :/منذ أن أحرقت أحلام بثينة
و خطابات جميل/
وقصة جميل بن معمر العامري معروفة في الأدب العربي إذ خلّد حبّه لبثينة العامرية في أشعاره لكن أعراف القبيلة تمنع اقترانهما لذلك الشّاعر أحرقَ الأحلامَ في استعارةٍ تصريحيةٍ إذ حذف المشبه به النار وصرح بالاحتراق والأحلام معنوية لا تحترق و النار ماديّة ملموسة و كذلك أحرق (خطابات جميل) في كناية عن إنهاء حالته الشّعوريّة آنذاك. لكن لماذا؟
/منذ أن جاء بنو عبسٍ سكارى
قبل ساعات الأصيل /
وبنو عبس قيبلة عنترة اّلذين رفضوه وأبعدوه و توسلوا به لما احتاجوه للذود عنهم، وهم سكارى في حالةٍ من تشتيت الذهن و فقدان الوعي.
/ثم لاذوا…
عندما جاء يهوذا بالفرار/
رغم حالة لاوعي قوم الشاعر هربوا عندما وصل ( يهوذا) وهو تلميذ السيد المسيح الذي خانه و باعه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة ثم ندم وقتل نفسه وتعدّ خيانته من أشهر الخيانات في تاريخ البشرية.
و سبب غالبية الهزائم الخيانة مهما تقدمت العصور،
/وأنا أصرخُ
إنّ البندقية…
هي أسلوبُ الحوارْ/
شاعرنا عانى من استغلاق فهم الآخرين وعدم اصغائهم له كما عانى من الخيانة لذلك يرى إن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالحوار لم يعد يجدي والأجدر صوت الرصاص.
أحسن الشاعر توظيف ثقافته المتعددة من مصادر عدة كقصص الحب العذري و قصة يسوع و يهوذا الاسخريوطي و كذلك اعتلى ذرى الحبكة الدرامية كمحترف رغم أنه كان في طور التجريب، ونلاحظ استخدامه لتفعيلات البحر الكامل
( متفاعلن) بحرفية وكأن العروض موهبة و جزء من شخصيته الشعرية.
و اعتبر القصيدة مكتملة من حيث النضج الفنّيّ
د. آسية بديع يوسف
مديرة ملتقى عشتار الثقافي
منذُ زمنٍ بعيد
………
منذُ أن أبَّنْتُ نفسيْ
ثمَّ أسرجتُ خيولي
وتزَوّذتُ بيأسيْ….
منذُ أن جئتُ إلى الدنيا….
وفي كفَّيّ نحسيْ….
منذُ أن حَطَّمتُ كأسي…
و أنا ظِلٌّ لأمسيْ
لا حنينٌ…
لا بكاءٌ…
لا دموعٌ و اشتياقْ
لا مواعيدُ َذكرى
لا لقاءٌ أو فراقْ
لستُ في لُجَّةِ بحرٍ..
أو بأثوابي احتراقْ
منذُ أن جاءوا بمن أهوى قتيلاً
و أنا اضجرُ من كلّ عناقْ
منذُ أن ألقيتُ شعري في البحارْ
منذُ أن جئتُ إلى المسرحِ وحدي
ولَعبْتُ الدَّورَ وحدي…
ثمَّ أسدلتُ الستارْ
منذُ أن أحرقتُ أحلامَ ( بثينة)
وخطاباتِ (جميل)
منذُ أن جاءَ بنو عبسٍ سكارى
قبلَ ساعاتِ الأصيلْ
ثم لاذوا…
عندما جاء يهوذا بالفرارْ
وأنا أصرخُ
إنَّ البندقية…
هي أسلوبُ الحِوارْ
د. جليل البيضاني