مكتب الجزائر – أبو طارق الجزائري
نعيش على غرار شعوب العالم ، هلع وفزع ، وخوف من مستقبل مجهول لا أحد يعرف عواقبه ، جراء وباء فتاك اسمه كوفيد 19، وبما أن الإجراءات المتخذة لمجابهته تكاد تكون نفسها في كل البلدان ، الحجر المنزلي وفقط ، ولا شيء أخرى يمكن اعتماده غير الحجر ، وجب علينا نحن أيضا إتباع هذا الإجراء ، والالتزام بما التزمت به عامة الناس ، عل وعسى يزول هذا الوباء ونرى عالم جديد كما توقعه السياسيون بعد جائحة كرونا ، عالم خال من الحروب ، يضمن لنا حياة هادئة ومطمئنة يسودها الأمن والأمان ، عندئذ تكون لنا زيارة الى حيث يوجد الأحباء والأشقاء ، ومن ارتبطنا بهم فملكوا قلوبنا ومشاعرنا ، فلا يصدنا عنهم وباء ولا حرب ، ولا قرارات جائرة من البيت الأبيض ،سنظل أوفياء لهم حتى وان تقدم بنا العمر ، يبقى الأمل قائم في رؤية الأعزاء قريبا ، إذا كان في العمر بقية .
في هذه الظروف الصعبة جدا ، التي أوردت لها وصفا سريعا ، يحضرني موضوع في غاية الأهمية ، لم يكن من وحيي ولا من اختياري ، ولم يخطر ببالي إلا في زمن “الكرونا ” ، هذا الوباء الذي دخل حياتنا وحكم علينا قبضته ، أبقانا ببيوتنا لفترة طويلة وأتاح لنا فرصة المطالعة والكتابة ، اللتان تكاد تزيحهما عنا شواغل الحياة ومتطلباتها الجهنمية ، الملحة علينا دوما بالمزيد ، بحيث تمكنت في هذه الفترة من نفض الغبار من رفوف مكتبتي وترتيب كتبها ، ومراجعة بعض عناوينها التي لم تحض باهتمامي منذ فترة ، لأسباب لا أحبذ ذكر وجعها ثانية .الآخرين .
وما إن فتحت ذات مرة مجلة من مجلات التراث الشعبي ، العدد الثالث والرابع ، من السنة الثانية لعام 1982 م ، الصادرة عن وزارة الإعلام والثقافة العراقية سابقا ، حتى ظهر صوب عيني موضوع يتوسط فهرس المجلة ، حمل عنوان “الزواج في مجتمع دمشق من خلال الأمثال ” ، لصاحبة الأستاذ عبد الفتاح المصري ، عالج فيه الخطوات المتبعة في هذا المشروع ، من اختيار العروسة إلى يوم الزفاف ، فإنجاب الأولاد و حسن تربيتهم ، ونقاط أخرى متصلة ، فرأيت فيما قدمه الأستاذ ، نافذة تطلني على عادات وتقاليد شعب أحبه واحترمه ، وتعرفني بأثار تجاربهم في جانب هام من الحياة الذي هو اقامة أسرة ، لتقديم وجهة نظر فيما إذا كان للموضوع صلة بتجارب مماثلة عندنا بالجزائر ، تبرز جوانب تاريخية وثقافية في العلاقة بين شعبين شقيقين ، ظلت مغيبة ولم يتجاوز الاهتمام بها حد الوصف والتلميح .
العناية بالأمثال في الأوطان العربية
عرفت الأمثال العربية عناية مبكرة جدا من قبل الباحثين ، ظهرت معالمها قبل الإسلام واتخذت شكلا أدق بعد انتشار الإسلام في أنحاء المعمورة ، اذ كان اهتمام العرب بالمثل في هذه الفترات تجاوز الاهتمام بالعناصر الثقافية الأخرى ، بما في ذلك الشعر ، وقد أورد المستشرق الألماني ” رودلف زلهايم ” في كتابه ( الأمثال العربية القديمة ) ، ترجمة رمضان عبد التواب – مؤسسة الرسالة – بيروت 1982 م ، قائمة طويلة حملت أسماء المؤلفين المستشرقين والعرب الذين اهتموا بالأمثال العربية _ و تكرر هذا الاهتمام بداية احتكاك الحضارتين ، أين انتبهت الشعوب الغربية الحديثة إلى ” علم الأمثال ” وأثر فيها أيما تأثير ، كما اعترف علماء التربية الغربيين بقيمة الأمثال ، وحثوا تلامذتهم على حفظها ، فهي حسب ” رودلف” ، ينعكس فيها الشعور والتفكير ، وعادة الأفراد على وجه العموم _ وتواصل اهتمام المجتمعات الغربية بالثقافة الشعبية للمجتمعات العربية ، في الأمثال وفي غير الأمثال أثناء غزوهم لهم ، واخذ هذا الاهتمام شكلا مغايرا لما كان عليه في السابق ، بحيث أظهر أصحابه حاجتهم الملحة إلى اثنوغرافيا عسكرية ، تعتمد على الثقافة الشعبية لفهم طبيعة مستعمراتهم الجديدة ، ولعل ما حدث بالجزائر أفضل دليل على وجود استعمار استيطاني ، مواجهته تقتضي حمل القلم والبندقية معا .
أوجه التشابه والتقارب
إذا ما نظرنا إلى تعريف الأستاذ عبد الفتاح المصري للمثل ، في أنه خلاصة تجارب الأمة ، وما مر ويمر بها من خبرات في حياتها ، وثمرة التجارب ، والزبدة التي مخضتها وتمخضتها الأيام ، والصورة الواضحة عن أحوال معيشتها ، وأخذنا ما ورد في كتب التاريخ التي تناولت بالتحديد الهجرة إلى بلاد الشام ، ووصف مؤلفيها لطبيعة العلاقة بين الشعبين ، الجزائري والسوري ، التي تعود حسبهم الى عوامل عدة مشتركة ، لم يذكروا منها إلا الدين واللغة ، نجد صور الماضي تتكرر بين شعبي الضفتين ، بعد تعرض سوريا الى مؤامرة كونية ، أجبرت بعض أبنائها الى الرحيل نحو الجزائر ، وفي هذا البلد وجدوا ما يناسب الحياة في بيئتهم الأصلية ، سهلت اندماجهم وتأقلمهم بشكل سريع ، حتى أننا أصبحنا لا نميز وجودهم وسط الجزائريين إلا من تقديم اوراق الهوية ، تمكنوا من تعلم اللهجة الجزائرية بما فيها من صعوبة الفاضها الأجنبية ، وأخذوا من عادتهم وتقاليدهم ولهم مشاريع عدة وصفت بالنجحة .
ومن كل هذا ، نرى هناك ضرورة ملحة لطرق أبواب الشام من جديد ، وقد يكون موضوع الأمثال التي قيلت في الزواج مناسبة سعيدة ، نكتشف من خلالها مدى التقارب والتشابه في قيم وعادات وتقاليد وسلوك الشعبين ، ولا نستثني المجتمع الجزائري الأمازيغي ، فهذه الفئة هي الأقرب إلى المجتمع السوري من أزمنة غابرة ، لهم أعلام بارزة بأرض الشام ، ومن أحفادهم رجال يشكلون الصفوف الأولى للوطنيين المخلصين لهذا البلد العزيز ،أمثالهم أقرب الى المعنى العربي ، وأحيانا ترجمة حرفية لها أثرها في الأمثال الجزائرية والسورية ،
نماذج الأمثال
سأحاول التركيز على أهم المراحل التي يجب اتباعها في مشروع الزواج ، وأبدأ من حيث بدأ الأستاذ عبد الفتاح المصري ، وانتهي حين أشعر بوصول الفكرة للقارئ ، إذ يقال في الخطوة الأولى من الزواج أنها الأصعب على الاطلاق ، تتعلق بانتقاء شخص مناسب يشاركك في الحياة ، وهذا من القرارات التي يتستوجب حضور ذهني قوي ، وارتكاب خطأ واحدا يجرك إلى عناء سنيين وعقود وقد تبقى له أثار جانبية ، لذا ما جاء في هذا الباب من أمثال كانت لغتها مبسطة ومدققة وهادفة ، كهذا المثل السوري الذي يقول : ” شيل الريحانة وشمها وخوذ البنت على ريحة امها ” ، وأخر يقول : ” تب القدرة على فمها بتطلع البنت لامها ” ، وفي الجزائر يقولون : ” اقلب القدرة على فمها تخرج الطفلة تشبه لامها ” ، وبالأمازيغية الجزائرية ” اقل غر يماس ثويث يلييس ” ، وفي معناه بالعربي ، “انظر إلى الأم وتزوج ابنتها ” ، فالبنت تأخذ من طبائع امها الكثير ، والمثل يعالج جانبا مهما اشرنا اليه سابقا ، ويتعلق الأمر بتوزيع الجهد الذي يأخذه البحث عن العروسة ومعرفة أمها فهذا كاف لمعرفة البنت ، فهي صورة طبق الأصل لأمها .
وفي سياق متصل ، يتعلق باختيار نسب الزوجة ، أورد فيه الأستاذ عبد الفتاح المصري ، مثل يحث على الابتعاد عن الأقارب ، ويحذر من عواقب زواج الأقارب ، الذي يظل على الدوام الأقرب اإلى الهزات والعواصف التي عادة ما تحرك البيت الزوجي سريعا ، إذ يقول المثل السوري : ” اهلك لا تقربهم بيقرصك عقربهم ” ، يشبه القرابة في الزواج بسموم العقارب ، لكن بالمقابل هناك مثل اقرب الى الحكمة في الشكل والمعنى والتراكيب ، متداول بالجزائر وربما أوسع ، حسب اطلاعي بوضع التراث بالجزائر ، يعد أكثر الأمثال تداولا ، ولا ننسى أن هناك بالمنطقة المغاربية حكماء لازمت حياتهم هذه الأقوال ، وألصقت بهم العديد منها ، خاصة منها التي تتسم بالحكمة والدقة ،ومن أشهرهم على الاطلاق ،الشيخ عبد الرحمان المجدوب ، شخصية ذاع صيتها وأقواله محفورة في ذاكرة المجتمع المغاربي وعرفت برباعيات المجدوب ، ويأتي في الصف الثاني عبد الصمد الشابي ، تونسي المولد ، استقر به الحال بالشرق الجزائري .آخذت أقواله صفة صمدية بما فيها من حكمة وبعد النظر ، فهو بالدرجة الأولى رجل سياسة ، إلا أن أقواله لم يظهر لها اثر إلا في أماكن معينة من الشرق الجزائر ، فيما يقول المثل فيما اطلنا حديثنا ، ” خذ بنت العم ولو بايرة ، خذ طريق مسڤمة ولو دايرة ، وأصحب الكلب أو ما تصجب الدايرة ،” مسڤمة ” في اللهجة الجزائرية يعني مستقيمة ، ” بايرة ” ، يقال للمرأة التي وصلت سن الزواج ولم تتزوج ، وللرجل ” باير” ، أما الدايرة فهو اسم لمسئول في أنظمة قديمة، و يبدو من خلال هذا المثل . والمثل السالف الذي جاء به الأستاذ عبد الفتاح المصري، أننا أمام قولين مختلفين ، فمن أي زاوية يمكن معالجة الاشكال ؟، فالأول يدعوا إلى الابتعاد عن زواج الأقارب ، ويستدل بحديث الرسول (ص) الذي يقول ” اغتربوا ولا تضووا ” ، والثاني يدعو إلى تكريس زواج الأقارب ويحدد طبيعة القرابة بأبناء العمومة ، هنا لا بد من العودة إلى ما أورده ‘”رودلف ” بخصوص تحديد عمر المثل ، لمعرفة درجة القرابة وان كان ذكرها “عمومة “، فقد يكون هذا وصفا وليس إشارة ، فإذا أخذنا بعمر المثل لا بد أن نعرف أن الزواج نزعة إنسانية ، أقدمت عليه البشرية يوم عرفت الحياة ، هو قديم ، تناول مجتمع قديم تفرعت منه أجيال وأجيال ، فبرأي عباس محمود العقاد الذي نقحم رأيا له في الموضوع ، يرى نجاح الزواج مرهون بشروط ثلاث تجمع في الزوجين ، خبرة الحياة ، التحصيل العلمي ، والطبع الموروث ، ويركز على الشرط الأخير ، كركيزة أساسية لا يتحقق من غيرها النجاح ، حتى وان توفر الشرطين الأولين ، وعبارة الطبع الموروث ، إشارة واضحة إلى قرابة نرث منها صفات تقربنا .
في مثل أخر حول تحديد طبيعة التعامل مع الحماة ، ويأتي هذا في المثل السوري تحذير من عواقب الإخلال بالعلاقة مع أم زوجتك ، وأقوال كثيرة واردة في هذا الباب ، تبرز التنوع الثقافي لمجتمعاتنا ، في حين يقول المثل ” دلل حماتك واكسب ودها ، أحسن ما تفتحلك طاقة ما تقدر تسدها ” ، ويقابله مثل جزائري بأسلوب أعنف ، يقول ” اللي شقا على نسيبته يعطيها طريحة وإلا ميشقاش ” ،نسيبته يعني حماته ، ” وطريحة ” طرحه أرضا وضربه ضربا مبرحا (قويا) ، ونجد العلاقة بين المثلين في المعني فقط _ وفي مثل أخر هو الأخير ، في انتظار ادراج ما قيل في الرجل حتى نكون منصفين ، في أعداد قادمة ، يقول بالهجة الجزائرية ” جيب أمرا ونص ، إذا راح النص تبقى أمرا ” ،” أمرا ” يعني امرأة ونصف إذا غاب نصفها تبقى امرأة ، وفي اللجة السورية مثل يؤدي نفس المعنى ” روح عالغالي وخذ لك دار بيحفظ لك عرضك ، وبيوفر عليك المال ” – نكتفي بهذا القدر ، وقد رسمنا معالم موضوع جدير بالاهتمام ، يساهم في تجديد العهد بين شعبين شقيقين باعدت بينهما ظروف كثيرة .