لا يمكن أن يعيش الإنسان من دون تواصل مع الآخرين كبارا وصغارا . وعندما يغيب التواصل بين الناس تنشب الحروب والمعارك والأزمات . وللتواصل أشكال متعددة ربما كان أجملها ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في قصة مريم حين قال :” يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) “.
وفى سورة آل عمران يقول تعالى في كتابه العزيز : ” إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (45 ، 46)
وكذلك صاحب جريج العابد الذي اتهم بولد ليس منه ، فنطق الصبي وأقر بأبيه الحقيقي ، وأيضا رضيع تمنت أمه أن يكون مثل رجل وجيه مر عليها، فنطق وقال : اللهم لا تجعلني مثله ، وقد ورد خبرهما مفصلا في حديث رواه البخاري ومسلم .
وفى صحيح مسلم أن منهم في قصة أصحاب الأخدود صبيا يرضع تقاعست أمه عن الوقوع في النار لتمسكها بإيمانها فقال لها : يا أمة اصبري فإنك على الحق ، وفى حديث رواه البيهقى أن منهم صبيا لماشطة لامرأة فرعون أو بنته ، لما سقط مشطها من يديها قالت بسم الله ، فأمر فرعون بإلقائها في النار، فقال رضيعها” :قعي ولا تقاعسي فإنا على الحق ” .
وقيل إن منهم شاهد يوسف الذي برأه من تهمة زليخة . يقول الله في كتابه العزيز : “وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
هذا النوع من التواصل هو أقسى وأشد أنواع التواصل لأنه من المعجزات إذ يغيب التكافؤ بين المتواصلين فالأول طفل رضيع والثاني شيخ كبير. لقد كانت الغاية من هذا التواصل فرض الصدمة القاسية المقنعة الإجبارية على الآخر وفق مذهب ربح –خسارة في التفاوض .
يبدأ التواصل الفعال عندما ندمج الظلال النفسية بالظلال المعرفية ونقدمها دفعة واحدة أمام الآخر . يحدث التواصل في العادة بين شخصين على مستويات عديدة في وقت واحد وبوجود فروق دقيقة وتعقيدات متميزة وتتنوع مستويات التواصل بين لفظية وجسدية وسمعية وعاطفية وحيوية .
المستوى اللفظي للتواصل:
يعد التواصل اللفظي من أكثر مستويات التواصل وضوحا في المجتمع البشري ورغم ذلك يقضي معظم الناس عمرهم وهم يحاولون إتقانه . يتضمن هذا المستوى حسن اختيارنا للكلمات على أساس فهم المعنى بين المتحدث والمستمع . هناك تعريفات متعددة للمصطلحات ومعظم الكلمات ويميل المتحدث إلى استخدام المعنى الدقيق لكل كلمة . تثير الكلمات المختلفة صورا وذكريات ومعاني مختلفة لأشخاص مختلفين. ويؤثر المنطق والنطق والبيان والحجة المرسلة على فعالية الرسالة التي يتم استقبالها وهو ما يلخص منطق أرسطو في التواصل .
للتواصل الفعال على المستوى اللفظي يجب :
- تحديد واختيار الكلمات الصحيحة .
- الاستخدام الفعال للتراكيب اللغوية .
- الاستخدام الاجتماعي للمفردات اللغوية .
- فهم الاختلافات الأخلاقية والدينية والعرقية والثقافية .
- الوضوح والاختصار والتوجيه المباشر.
- استخدم الروح التي تخدم التواصل لا الهوى والنزعات الشخصية .
وعلينا أيضا أن ندرك أن التواصل اللفظي فن بحد ذاته .
المستوى المادي للتواصل:
لقد جلبت البرمجة اللغوية العصبية إلى مسرح الحياة أهمية الإشارات البصرية في التواصل بين البشر . تؤثر الإشارات البصرية مثل الاتصال بالعين والإيماءات والحركات والمواقف والتنفس والوضعية وتعبيرات الوجه على شعورنا وتواصلنا.
المشكلة هي أنه لا أحد في هذا الكون يستخدم مهارات البرمجة اللغوية العصبية بنزاهة . وعندما يستخدمها الإنسان بنزاهة يمكنه أن يستخدم مهارات التطابق والتعاكس والإيماءات في فهم الشخصية واختيار مستوى التخاطب اللغوي معها .
للتواصل بفعالية على المستوى المادي ، من المفيد أن نتوافق مع الآخرين جسديا وأن نتواصل معهم شكلا ومضمونا ومن المفيد أيضًا أن يكون الإنسان مدركا وواعيًا لوضعيته وجلوسه وتعبيرات الوجه وإيماءات اليد والساقين والقدمين .
المستوى السمعي للتواصل:
يحدث صوتنا بما يحتويه من جمال في النغمة والإيقاع والنطاق والشدة و السرعة تأثيرا قويا على كيفية تلقي الآخرين لرسائلنا وتفسيرها بالطريقة الصحيحة والمفهومة.
على سبيل المثال ، يجد المتحدثون السريعون أنه من المفيد إبطاء كلامهم عند التحدث إلى شخص متعلم ومنطقي أو أنه من الخطر عدم الاستماع إليه . وعلينا أن ندرك أن الطريقة التي نعلن بها عن أنفسنا ونخاطب فيها الآخرين تؤثر على كيفية تفسير الآخرين لمعنى ما نقول .
للتواصل بشكل فعال على المستوى السمعي ، يجب أن نكون على دراية بالإشارات السمعية المختلفة ، وأن نتحدث مع الآخرين بطريقة أقرب إلى طرقهم الخاصة في الحديث كنوع من التطابق بين الشخصيات الذي يجب الإيحاء به.
المستوى العاطفي للتواصل:
قليلون يقدرون أهمية التواصل العاطفي بين الأفراد ومدى تأثير مستوى التواصل العاطفي في إيصال الرسالة . لقد وضع أرسطو إثارة شفقة الجمهور في قائمة أولوياته عند مخاطبتهم وإثارة عواطفهم . في العصر الحالي ، هناك ميل لاستقبال الرسائل بسهولة أكبر من الأشخاص الإيجابيين أكثر من السلبيين أو الواقعيين . ويبدو أن الإنسان أكثر تقبلا للورديين والحالمين والواثقين من السلبيين والناقدين . يميل الناس نحو الحماسة في الخطاب اللغوي أكثر من الملل والرتابة والواقعية . تساعد الطاقة الايجابية والحماسة في خلق حالات ذهنية تؤثر على كيفية تفسير المتلقي للرسالة وهذا يفسر ميل القادة في دول العالم الثالث نحو إلقاء الخطابات الرنانة الحماسية المليئة بالرطانة ، وهذا أيضا يفسر ميل بعض المحطات لبث الأغاني الوطنية في المناسبات القومية لشد الهمم وتكوين الرأي ولفت النظر نحو قضايا الوطن الكبرى وتفضيلها على القضايا الشخصية الصغرى .
للتواصل بفاعلية على المستوى العاطفي ، يجب على الإنسان أن يكون على دراية بالحالة العاطفية للذات والآخر ، وعليه أن يتعلم التوقف مؤقتًا والتحرر من المشاعر السلبية قبل محاولة التواصل مع الآخرين. من النادر أن يتم قبول الكلمات التي يتم تقديمها بفخر أو غضب أو خوف.
مستوى الاتصال النشط ( المستوى النفسي):
ويشمل هذا المستوى من التواصل مجموعة واسعة من العوامل غير المرئية بما في ذلك مستوى وعي الشخص وتكرار أو توافق الرسالة ، والطاقات الأخرى الخفية.
يبدو أن لدى بعض الأشخاص “عامل أكس ” بشكل فريد – يضفي على رسائلهم بشكل طبيعي القبول والتفهم من الآخرين.
للتواصل بشكل أكثر فاعلية ، على الإنسان أن يحتفظ بأعلى درجة من النوايا الطيبة لرفاهية الشخص الآخر . وهذا يتطلب مستوى فريدًا من اليقظة بشكل عام من خلال ممارسات الود . عندما نتمركز في حالة جيدة من التدريب و الإتقان ، فمن الأرجح أن نصل إلى هذا البعد النفسي الذي يحمل كنوزًا عظيمة من الرؤى للآخرين وهذا يساعدنا على التواصل بسهولة أكبر.
التقريب بين جميع مستويات التواصل:
المستوى اللفظي هو المحتوى والأساس لكل المستويات وهو الوعاء الذي يمثل المستويات الجسدية والسمعية والعاطفية والحيوية و كيف ننقل الرسالة.
هذه المستويات من التواصل مترابطة مع بعضها البعض ، حيث يؤثر كل مستوى على الآخر.
على سبيل المثال ، تؤثر حالتنا العاطفية على لغة جسدنا ويؤثر مجالنا العام على حالتنا العاطفية.
ويمكن أن يكون مجرد إدراك هذه المستويات المختلفة مفيدا للغاية .
عندما نرى التعقيدات المتأصلة في التواصل البشري ، يمكننا أن نكون أكثر صبرًا في كلامنا وأكثر عطفًا تجاه الآخرين وتجاه أنفسنا.