الخبرات الحياتية السابقة لصناع السياسات تفرض انعكاسات طويلة الأمد على النتائج السياسية – الاقتصادية في العالم الحقيقي .
ففي حدث عرف باسم “الثلاثاء الأسود”، انهارت البورصة الأمريكية، عام 1929 لسنوات طويلة حتى الخمسينات ، وطالت التداعيات اللاحقة للكساد بطون المواطنين ،و عاش جيل “أطفال الكساد الكبير” حياة مقترة وحرفت الصدمة التي عاشها المواطنون ملامح جيل كامل ومعتقداته ونظرته إلى العالم واختياراته الاقتصادية – في أسواق المال والعمل وجوانب أخرى عديدة من الحياة ، وساهمت هذه الموجة في إفساح المجال البحثي في الاقتصاد السلوكي لاستقاء المعرفة والمنهجيات من العلوم الاجتماعية والطبيعية ذات الصلة، إلى أصوله في علم النفس والاقتصاد ، الى أن أضحى
عنصراً أساسياً في جميع مجالات الاقتصاد تقريباً ( التمويل والعمل والقطاع العام والتنمية والاقتصاد الكلي ..) حيث بات الواقع النفسي جزءً
لا يتجزأ من مفهوم “الكائن الاقتصادي” الكلاسيكي ،
لكيفية تأثير الخبرات الشخصية الحياتية على معتقدات البشر وقراراتهم بشكل دائم.
ولكن آثار الخبرة السابقة لا تتعلق بأحداث الماضي القريب فحسب ، بل يذهب أحد المفاهيم المهمة إلى أن الأجيال المختلفة تتشكل بصور مختلفة ، وبالتالي قد تختلف استجابتها للأحداث القريبة ذاتها وتنطبق على كافة مناحي الحياة .
إن خبراء صنع السياسات تعكس أفعالهم آثار خبراتهم السابقة (صُنّاع السياسات هم عقول بشرية في النهاية ) فعادة ما تكون للتنبؤات
عن طريق التعلم تأثير ضئيل مقارنة بالمعتقدات القائمة على الخبرة السابقة والفكر الواقعي السليم
وهكذا ، يُسترشد بآثار الخبرات السابقة في صياغة الأبعاد المهمة للتدخلات والبرامج الهادفة إلى معالجة الأزمات أولاً ، وهو المفاضلة بين سرعة حل الأزمات وتكلفة هذا الحل من التداعيات طويلة الأمد لها ، حتى وإن سلمنا جدلاً “الكفر بالعلم” وأن المؤامرات والتحديات والحروب هي السبب في ما وصلنا اليه ، إلا أن الوضع في منطقتنا وسورية على الأخص يستلزم مفاهيم سياسية جديدة لخلق فضاء واسع سياسي – اقتصادي – اجتماعي – ثقافي يعتمد على توافقات محلية وطنية تستحدثها الحكومات التكنوقراطية القائمة على الشخوص الوطنية ذات الخبرات الكبيرة والتجارب الناجحة والسمعة المديدة .
وبالانتقال الى زاوية السياسة والاقتصاد من حيث المضمون ، والسياسات الناعمة المرنة لتغيير سياسات قائمة وضمن رؤية اللامركزية ، فقد برز الاسبوع الماضي تصريحين جديدين هامين في ما يتعلق بالملف السوري أحدهما من منسق الامم المتحدة للشؤون الانسانية ( آدم عبد المولى ) ؛
والثاني من بريطانيا ( جون بيل ) الرئيس التنفيذي لشركة “جلف ساندز بتروليوم” البريطانية الذي حذر من كارثة إنسانية تشهدها منطقة شرق سورية ، وأرجع سبب الكارثة إلى الطرق البدائية في استخراج النفط من الآبار وتكريره ، وأن تأثير الأزمة السورية على البيئة وصحة السكان ، لا تتم مناقشته بشكل متكرر بما فيه الكفاية ، مضيفاً أن حقول النفط في المنطقة كانت هدفاً متكرراً للهجمات العسكرية، ومحاولة الأطراف السيطرة عليها.
ومؤكداً أن هذه الاعتداءات على الآبار أدت إلى حدوث تسربات وتلوث واسع النطاق في مصادر التربة والهواء والمياه ، وتحدث عن الأضرار الناجمة من محاولة السلطات القائمة استخراج النفط ونقله وتكريره بطرق بدائية ، وخالية من أي اعتبارات تتعلق بالصحة والسلامة البيئية ، إضافة إلى طرق التخلص غير الآمن لمنتجات النفط ، مما يؤدي إلى أضرار بيئية لا يمكن تصورها تؤثر على جودة المياه والإنتاج الزراعي وتلوث الهواء وصحة المجتمع .
وقدم الرئيس التنفيذي للشركة البريطانية، جون بيل، أربعة حلول لهذه المشكلة ؛ أولها إخراج صناعة النفط والغاز في سورية من مرمى الصراع العسكري ووضعها تحت مظلة دولية تضمن حصة عادلة وقانونية وشفافة لجميع السوريين .
وثانيها السماح لشركات الطاقة الدولية، التي تتمتع بالقدرة والخبرة اللازمة لتنفيذ أفضل الممارسات، بالعودة إلى العمليات وبدء عملية التنظيف وتخفيف المشكلات الصحية المستمرة والمساعدة في منع المزيد من الضرر للبيئة .
أما الحل الثالث ، تضمن السماح بالبيع الشفاف للنفط بأسعار السوق العالمي ، بحيث يمكن توزيع عائداته على المبادرات الإنسانية والبيئية والصحية تحت إشراف مناسب .
والحل الأخير هو إعادة بناء البنية التحتية للطاقة المناسبة للغرض ويمكن أن تساهم في مستقبل أنظف لسورية .
وكانت الشركة قدمت عام 2022 مبادرة تحت عنوان ( النفط مقابل الغذاء ) تقوم على استثمار آبار النفط في شمال شرق سورية مقابل تمويل مشاريع إنسانية واقتصادية.
واعتبر بيل ، أنه يمكن إعادة إنتاج النفط والغاز السوريين، بما يصل إلى 500 ألف برميل يومياً بعائد ما يقارب 20 مليار دولار سنوياً بالنظر إلى أسعار النفط العالمية .
وكانت تقارير إعلامية حذرت ، خلال السنوات الماضية، من خطر يهدد حياة سكان شرق سورية بسبب النفط وطريقة استخراجه واصفة إياه ”سم أسود يزحف ببطء ” .
في نفس الاطار تأتي تصريحات منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سورية حول إطلاق برنامج للتعافي المبكر قبل حلول الصيف ، وخلال مقابلة خاصة مع صحيفة الوطن السورية صرح السيد ” آدم عبد المولى” ، أن البرنامج يمتد 5 سنوات ويتضمن إقامة مشاريع في عدد من القطاعات بينها الكهرباء ، وأن تمويله سيتم من خلال إنشاء صندوق خاص يوفر لبعض «المانحين غير التقليديين» كدول الخليج ، آلية آمنة وشرعية تحت مظلة دولية بأن تقدم مساعدات للشعب السوري لا تستطيع أن تقدمها الآن بسبب الإجراءات الاقتصادية القسرية أحادية الجانب التي تفرضها أميركا ودول غربية على الحكومة السورية ، وأضاف أن للأزمة السورية تداعياتها التي قد تؤثر على استقرار المنطقة بل على استقرار العالم إذا استمرت من دون معالجة.
محذراً من انحدار منحى تمويل خطة الاستجابة الإنسانية في سورية ، إلى أقل من 40 بالمئة من الاحتياجات الفعلية ، وأضاف أن العدد الإجمالي للأشخاص الذين يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية في سورية هو بحدود 16 مليون شخص، ونستهدف منهم ما يزيد على عشرة ملايين ، ولكن لتلبية احتياجات العدد الإجمالي السابق نحتاج إلى ما يربو على عشرة مليارات دولار، وهذه الأموال ينبغي أن نتحصّل عليها من «المانحين التقليديين وغير التقليديين » و«المانحين غير التقليديين» ، علماً أن الولايات المتحدة الأميركية قررت خفض مساهماتها في المساعدات الإنسانية لسورية بمقدار 50 بالمئة وألمانيا بمقدار 30 بالمئة ، وأننا نواجه عاماً صعباً للغاية، حيث ازداد فيه عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية ، لكن حجم المساعدات حتى الآن أقل بكثير مما كنا نتوخاه، من متطلبات خطة الاستجابة الإنسانية البالغة أربعة مليارات و700 ألف دولار .
لا شك أن الحرب الباردة بين امريكا ودول الغرب مع روسيا والصين و إيران تتجند فيها أقوى علوم التكنولوجيا والتي تشكل حتى الآن سبب تفوق أميركا العالمي ،بالاضافة الى باقي المقومات الاخرى …
ختاماً ، بين سلاسة المبادرات الناعمة والقاسية ، ومنعكسات الحرب الباردة والساخنة في العالم والاقليم ، علينا كي نكون سوريين حقيقيين ، أن نبحث عبر الحوار السوري عن المشتركات بيننا بعيداً عن كل شيء يفرقنا ، بجدية وهدوء ووعي وانسانية ومحبة ضمن الدولة المدنية ذات السيادة على كامل جغرافيتها ، الضامنة لحقوق الانسان والمساواة والمواطنة والديموقراطية وسيادة القانون والمصالح المشتركة الايجابية بين دول الاقليم والعالم مع سورية .. فلنخافظ عليها لتحفظنا ، لأننا جميعاً سنخسر بغير ذلك …
وكل عام وأنتم بخير ، بمناسبة عيد الفطر السعيد ، أعاده الله على الانسانية والعالم أجمع بالأمن والسلام والخير والبركة ..
مهندس باسل كويفي