تطيب لي إضاءة نص روائي جديد لكاتب متألق هو أحمد قاسم العريقي، الذي أخذ يلفت الأنظار إلى تجربته الروائية، ويتخذ في أثناء ذلك موقعًا مهمًا في قطار الرواية في اليمن، في مدة وجيزة نسبيًا، لكنها جاءت خصبة في الكتابة التي تربو على سبع روايات سمان منذ 2018 إلى 2024، بمعدل رواية في كل عام، وهو معيار كمي أرجو ألا يقع الكاتب مستقبلًا في فخاخ الكمية، كما استطاع في هذه المدة أن يحصد العديد من الجوائز ويستقطب النقد والاحتفاء، فضلاً عن أعماله السردية الأخرى خارج حقل الرواية، وآخر أعماله رواية(باهوت يفرس) في سيرة المتصوف اليمني أحمد بن علوان.
والكتابة عن المتصوف أحمد بن علوان ولو كانت في إطار عمل روائي يقوم على التخييل تعدُّ مغامرة روائية جريئة في ذاتها، ورائدة في موضوعها، وهي على الرغم من كونها موضوعًا خصبًا ومجالًا بكرًا للارتياد، تضع الكاتب أمام تحدٍ خاص في تخيره لزوايا مقارب تخيل هذه الشخصية المرجعية التي لها سردياتها المتعددة في التاريخ والحياة الدينية والثقافية، وفي الموروثات الشعبية والمعتقدات، ما يمنحها أبعادًا عديدة ويجعل انتزاعها من سرديات المرجع إلى سردية المتخيل تجربة جديرة بالعناية والنظر، ذلك أن شخصية أحمد بن علوان بخلاف شخصيات المتصوفة الآخرين مثل السهروردي والحلاج أو ابن عربي، مرتبطة بالوعي الجمعي والشعبي الثقافي والاجتماعي، على الرغم من استقطاب تلك الشخصيات للعديد من الكتابات الروائية العربية، التي استلهمتها واستدعتها ووظفتها مثل ابن عربي منذ تجليات جمال الغيطاني في 1990 وحتى محمد حسن علوان في (موت صغير) الحائزة على البوكر في 2017.
وهناك العديد من المداخل النقدية التي تحتملها رواية باهوت يفرس، من الناحية الموضوعية أو من الناحية الجمالية المتصلة ببنية السرد، في الناحية الأولى هناك اشتغال على تمرير خطاب يتصل بقضايا معاصرة من خلال سردية ابن علوان، ويخيل إلي في النصف الثاني من الرواية أنها باتت تشكل إسقاطا فكريا مباشرا أثقل السرد بالخطابات والحمولة الأيديولوجية.
أما في الناحية الجمالية، وهي موضوع العناية، هنا، من خلال تناولنا تقنية (التضفير السردي) التي تستند إلى جمع عناصر ومكونات بنيوية في إطار بنية سردية واحدة، والتضفير السردي قد اتخذ في هذه الرواية أوجهً عديدة، منها:
1 ـ في المستوى الزمني:
في هذا المستوى يتم دمج الماضي بالحاضر من خلال خطين سرديين متضافرين من أول الرواية إلى نهايتها، الأول وهو مركز السرد وبؤرته، حيث أحداث الماضي التي تعود إلى القرن السابع الهجري المتصلة بحياة الرمز الصوفي أحمد بن علوان، والخط السردي الآخر وهو خط هامشي تأطيري يتصل بالحاضر واللحظة القلقة التي يعيشها السادر أو الراوي الأول نادر، عندما يحاول الفرار من الحرب وتدميرها ويجد نفسه قد سقط في فجوة أو سرداب لمبنى قديم، والتي دلالتها الرمزية بالانتقال من حائط الحاضر حيث الحرب إلى سرداب الماضي حيث اكتشاف الحكايات والطمأنينة، وكل خط منهما ينطوي إيقاع سردي خاص، قلق وساخر ومتوتر في الحاضر، وهادئ وطويل وسيري في الماضي. يحصل في أثناء ذلك السارد على مخطوط يعود إلى أيام أحمد بن علوان، ورفيقه الناسخ داود النساخ الذي قرر تدوين حياة ابن علوان في كتاب سماه “الباهوت” جمع فيه ما كتبه ابن علوان بنفسه، والشهادات أو الذكريات التي طلبها من شخصيات لها صلة مباشرة بحياة أحمد بن علوان، وهكذا، خط سردي عن حياة ابن علوان، وخط سردي عن اكتشاف الكتاب الذي يروي هذه الحياة ومعاناة السارد الأول (نادر) في أثناء ذلك. وثمرة تضافر هذين الخطين السرديين إنتاج الرواية.
2ـ في تعدد الرواة وتناوبهم في الحكي:
أما التضفير السردي على مستوى الرواة فيكمن في أمرين؛
الأول في تعدد الرواة، ففي مستوى الحاضر هناك سارد إطاري يروي قصة اكتشافه المخطوط، وعلى مستوى الحكاية داخل الحكاية هناك تعدد الرواة، وجميعهم ينتمون إلى طبقة سردية واحدة زمانًا ومكانًا، وهو الذي يعنينا هنا، حيث الشهادات والذكريات والاعترافات التي يقدمها الرواة حول حياة ابن علوان، بداية من أحمد بن علوان نفسه الذي يقرر الكتابة عن حياته الخاصة “هذا ما دونته بناني في طرسي مما لم أضمه في كتبي، خططته من الصغر إلى أن بلغت الكبر، وانتحيت به جانبًا، ليكون لي الذكرى المخصوصة لا مشاعًا للغير”ص17. ما يعني انفتاح السرد على ما هو حميم وخاص في إطار الكتابة الذاتية الأقرب إلى أسلوب اليوميات، وينطوي هذ السرد على المشاعر الخاصة والحياة الاجتماعية والتكوين والانفعالات والمشاعر، ويستمر في خمسة عشر فصلا يتحدث فيها عن نفسه. وهناك ما ترويه الشخصيات بناء على طلب من الناسخ داود عن علاقتها وذكرياتها مع ابن علوان، وعددها ست شخصيات ممن يربطهم قرابة أو صلة مباشرة بأحمد بن علوان، ولكل واحد منهم خصوصية سردية في أربعة وثلاثين من فصول الرواية، ويندرجون جمعهم في إطار الشخصيات الثانوية ووظائفها السردية المعيارية. كما يتوزعون وفق الوظائف السميولوجية حيث المانح والمساعد والمعارض والبطل المضاد والبطل المصاحب وفق الأدوار في سيرة ابن علوان.
وفي الأمر الآخر، فقد أتاح هذا التعدد تعدد في المنظورات السردية وسد فجوات الحكاية (حكاية ابن علوان) وسرد تفاصيل المشهد الواحد بأكثر من زاوية، كما منح سرود شخصيات بعينها وظيفة خاصة، مثل الأم (جوزة) والحبيبة (حُسن) حيث الحياة الاجتماعية والتفاصيل الخاصة أو سرد العائلة، والمريد (عمر بن يحي) سرد الحياة الصوفية وتفاصيلها، و(عبدالرحمن التغلبي) صديق ابن علون منذ الطفولة، الذي انطوى سرده جوانب الطفولة والتنشئة والرحلات، و(حنتش) بوصفه الخصم أو البطل المضاد الذي انطوى سرده عل الخطابات الفقية المضادة لفكر الصوفية، أما صديقه الكردي (طغرال) فقد كان جل سرده تأريخيًا تأطيريًا عن الأحوال السياسية والصراعات في زمن ابن علوان.
وهكذا جعل السارد الإطاري الرواية تنمو في تداخل وتناوب بين كل هؤلاء الرواة، ما خلق بنية سردية متضافرة التنامي والتفاصيل.
3ـ في مستوى اللغة السردية:
تقوم اللغة السردية على تضفير لغة الواقع والحياة اليومية في ظل الحرب التي تشهدها اليمن الان بكل منطوقاتها وسخريتها ومفارقاتها اللغوية المعاصرة، في مقابل لغة أخرى تراثية صوفية، تستمد خصائصها من المعجم الصوفي ومفرداته، كما تقوم لغة السرد بتضفير نصوص منسوبة إلى ابن علوان في الواقع المرجعي، مما يرد بين علامتي التنصيص، ما يعني أنها مقتبسة من ابن علوان أو كتابات المتصوفة على طريقته، وذلك يدل على استقدام هذه اللغة من المرجعي إلى المتخيل قصد خلق حالة من التضفير على مستوى اللغة السردية. وهنا يكفي أن نشير إلى الفصول التي تضمنت طابًا جدليًا أو حجاجيًا مما هو متخيل في نقاشات ابن علوان مع خصومه.
4 ـ على مستوى الميتاقص أو الميتاسرد:
الميتاقص أو الميتاسرد هو أن يصف السرد نفسه، أن تتحدث الرواية عن نفسها أو يتضمن السرد التعليق على نفسه، وفي باهوت يفرس يقدم السرد مقطعًا استهلاليًا قبل بدء الرواية، مستل من آخر فصول ابن علوان، يبدو وكأنه بمثابة تحذير في مواجهة القارئ، يمهد له الدخول إلى عالم الرواية، ويحاول أن ينفي ما علق في الوجدان الشعبي من خرافات وادعاءات ومعتقدات بشأن هذه الشخصية، أشبه بخطاب دفاع عن ابن علوان قبل أن تتشكل أحداث الرواية. وكذلك تقوم الرواية بالتعليق على نفسها في أخر الرواية على لسان الراوي الذي يقول أنه قام بنشر المخطوط وترتيب ما جاء فيه على حسب المقاطع زمنيًا إنه أدخل قد أدخل حكايته فيها من أجل نشرها في صورة رواية، وبهذا تصبح الرواية هي المخطوط الذي اكتشف السارد وقصة اكتشافه.
وهناك العديد من القضايا المتصلة بالرواية وبنيتها، ولكن لضيق الوقت عرجت إلى ما ذُكر اختصارًا، مع الـتأكيد على الرواية بوصفها تندرج في إطار التخييل الروائي، ليس من وظيفتها أن تقدم أية حقيقة تاريخية مهما بدى ذلك للقارئ، فخطاب الرواية هو التخيل فيما خطاب التاريخ هو المرجع أو الحقيقة، وبالتالي لم تكن صورة ابن علوان في الرواية إلا صورة متخيلة مهما جرى تضفيرها بخطاب مرجعي أو سندات تأريخية.
كل التفاعلات:
أنت و٢٢ شخصًا آخر