قصةٌ قَصيرةٌ…
” وَجَعُ سِنينٍ…”
– بابا نَجَحْتُ!
– وَ أنَا قَبلَكِ نِلْتُ نَتِيجَتي!
– بابا؟
– يا بُنَيَّتي.. اللّٰهُ يَبتَلي عَبدَهُ بِما يُحِبُّ،
وَ بِكِ اِبْتلائي!
– بابا هَلْ زارَكَ جَدِّي في المَنامِ؟
– نَعَمْ.. وُ يُقرِئُكِ السَّلامَ!
وَ يَقولُ:-
حَفيدَتي في الأمامِ.
دَخَلَتْ غُرفَتَها، وَ في حَلقِها تَحَشرَجَتْ غُصَّةٌ، تَرَكَتْ بابَها نِصفَ مُوارَبٍ كَي تَخْتلِسَ النَّظرَ.
اِستَحضرَتْ ذكرَياتِها، لَمْ تَعثرْ عَلـىٰ ما يُشيرُ إلىٰ شرودِ ذهنِ أبيها مثلَ هٰذهِ اللَّحظةِ الفارِقَةِ..
هيَ:- لا تَسعُها الأرضُ مِنْ بَهجَتِها!
هوَ:- يَعيشُ لَحظةَ تَجَلٍّ مَعَ وَهْمٍ،
يَبدُو أنَّهُ تَلبَّسَهُ عَلىٰ حِينِ غِرَّةٍ!
لٰكنْ لا…
عَليها أنْ تَقتُلَ الشَّكَ باليَقينِ، تُحاولُ أنْ تُعيدَ الكَرَّةَ ثانيَةً…
تَحمِلُ حالَها وَ تَنتَصِبُ أمامَهُ، شاخِصًا مِنْ لَحَمٍ وَ دَمٍّ، مُعْتَمِرَةً قُبَّعَةَ التَّخرّجِ،
لِتَلْفِتَ نَظرَهُ.
رَنَّ جَرَسُ البابِ، هَروَلَتْ.. تَلقَفَتْها أُمُّها، طَوَّحَتْ بِها إلـىٰ الأعلَـىٰ.. طَفَحَ حَوشُ الدّارِ بالزَّغاريدِ.
دُمُوعُ الفَرَحِ اِنْهمرَتْ مِدْرارًا. نَسَتِ الطِّفلَةُ ما أَلَمَّ بِهَا.. مِنْ صِراعٍ معَ نفسِها في حَضرَةِ ” المُبْتَلَـىٰ ” بِها،
فَلَمْ تُخبِرْ أُمَّهـا بِشيءٍ.
لَمَّا تَراءَىٰ لَها زوجُها مُفتَرشًا أرضيَّةَ الغُرفَةِ، اِندَهَشَتْ وَ تَوجَّهتْ إليهِ..
– أَبَا غُفران.. هَلْ أنْتَ نائِمٌ؟
– ………. !
– أَحْمَد.. أَحْمَد..!
رَفَعتْ يَدَهُ، اِنتبهَتْ إلـىٰ قَطراتِ عَرَقٍ تَفصَّدَتْ عَلـىٰ جَبينِهِ، لمْ تَزَلْ دافئِةً، طَبْطَبتْ عَلىٰ خَدَّيْهِ.. رَجَّتْهُ بِقوَّةٍ، لَمْ
يَتَحرَّكْ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ.
بَعدَ يَومٍ وَ لَيلَةٍ عَصِيبَتينِ.. تَنَفَّسَتِ الإسرَةُ، وَ الأصدقاءُ الصُّعَداءَ.
بَيْدَ أَنَّ حَياةَ “غُفرانَ” اِنقَلبَتْ رَأسًا عَلَـىٰ عَقِبِ! فَلَمْ تَعُدْ تَهتَمُّ بِمَنْ حَولَها إلَّا بِمِقدارِ ما يُحقِّقُ لَهَا الأَمانَ وَ راحَةَ البالِ.
وَالِدُها جَثَّةٌ مَرميَّةٌ عَلـىٰ كُرسِيٍّ مُدَولبٍ، تَنتظرُ لِحْدَهَا بفارغِ الصَّبرِ!
وَالِدَتُهَا تَحمِلُ نَعشَهَا وَ تَدورُ في شَوارِعِ الضَّياعِ، لا تَعرفُ اسْمَهَا، وَ لا أحَدَ يَراهَا إلَّا وَ بَكىٰ دَمًّا عَلَيهَا!
أقرِباؤهَا، أصدقاءُ الإسرةِ..
شَحَّتْ عَليهَا الدُّنيَا قاطِبَةً، لا تَجدُ إلَّا ما يَسدُّ رَمَقَ عَيشِهَا وَ عِلاجَ أَبيها.
تَتَقاذَفُهَا أمْواجُ بَحرِ يَومِهَا الهائِجِ،
وَ تَتكسَّرُ عِندَ صَبرِهَا، تَتَلاشَىٰ…
لِتَرجَعَ أقوَىٰ وَ أَحْكَمَ في يَومِهَا الآتي!
“غُفرانُ”…
أنهَكَتْها الحَياةُ، حَمَلَتْ عَلَـىٰ عاتِقِها هُمُومَ جِيلَينِ، بَلْ وَقَعَتْ ضَحيَّةَ
عِنادٍ لا مَسوَّغَ لَهُ، تَحدُوها مُناغاةُ جَنينٍ مَيْتٍ في أَحشائِهَا مُنْذُ شَبَّتْ عَنِ الطَّوقِ!
شَبيهُ الحُلْمِ المُتخثِّرِ، هَدَّهَا، وَ باتَتْ عُرُوقُها تَغُصُّ بِهِ كُلَّ حِينٍ.
تَجَمَّلَتْ بِالأدَبِ، تَزيَّنَت بِأَثاثِ البَّيتِ المُتهالِكِ، رَكَبَتْ عُنفوانَ شبابِها، وَ حَلَّقَتْ عاليًا في فَضاءاتٍ سِريَّةٍ، في سَدِيمِ الصَّيفِ وَ زَمهَريرِ الشِّتاءِ، وَجَدَتْ حالَهَا حَمْلًا بَينَ ضِباعٍ، فَهيَ قِشَّةٌ في مَهبِّ ريحٍ، لا تَلْوي عَلـىٰ أَمرٍ!
فاجَأَهَا الشَّيبُ، لَمْ تَهنَأْ بِرَحيقِ الحَياةِ مِثْلَ أقرانِهَا، دَقَّتِ الخُطُوبُ أوتادَهَا في جَسدِهَا، صُلِبَتْ وَ عُلِّقَتْ بُغيَةَ سَلْبِ عِفَّتِها، وَ ما وَهَنَتْ.. ما تَخاذَلَتْ إِزاءَ المُغْرياتِ، تَسامَتْ وَ اَرتَقتْ صَهوةَ الرَّجاءِ، تَنتظِرُ مُخَلِّصًا لَطَالَما حَلِمَتْ بِهِ، وَ زارَها مَعَ غاسِقٍ واقِبٍ، دُونَ أنْ يَبُلَّ رِيقَها، أو يُكَحِّلَ عَينَها.. مِنْ سُهْدِ لَيالٍ طِوالٍ!
أَكلَتْ وَ شَربَتْ.. بَيْدَ أنَّها لَمْ تَقَرّْ عَينًا، في لَحظَةٍ ما..
أكَلَتْ زَقُّومًا،
وَ شَرِبتْ حَميمًا وَ غَسَّاقًا..
فَشَدَّتْ عَلـىٰ بَطنِها حِجارَةً مِنْ جَمْرٍ،
اِنتَفضَتْ كالعَنقاءِ، مِن رمادِ اسمِها
وَ هَشيمِ نَفْسِها وَ شَظايا جَسَدِها!
مَزَّقَتِ الحَياءَ، وَ هَتكَتْ استارًا فَضفاضَةً.. تَلفُّها…
أَمَةٌ عَاثَتْ بِزرعِهَا أعْتَىٰ فُحُولِ الفَسادِ!
لٰكِنَّها.. سادَتْ سَادَتَهَا، وَ حَلَبَتْهُم مِثْلَ الأَبقارِ.. وَاحِدًا بَعدَ الآخَرِ!
(صاحِب ساجِت/العَراقُ)