*بقلم ناجي أمّهز*
لا أحد يُخفي أو ينكر أن الخسارة والألم شيء لا يوصف في بيئة المقاومة، حزنًا وفقدًا على سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصرالله، وهو القائد والسند والأب، والروح التي نشعر جميعًا بأننا نتنفسها ونعيش ونستمر على همس حضورها وانتظارها.
نعم، الأطفال كما الكبار يبكون بحرقة هذا الغياب الذي لم يكن أحد يتصوره أو يتوقعه، خاصةً أننا جميعًا كنا نعيش النبض القوي الثابت عندما كنا نرفع القبضات التي تطال السماء ونحن نهتف “لبيك يا نصرالله”.
فداء السيد بالأرواح والأموال وكل شيء تمتلكه هذه الطائفة، عن طيب خاطر ومسامحة لا متناهية. والله، لو كانت الأرواح توهب اليوم لوجدنا كل واحد من هذه البيئة يسابق إلى منح هذه الروح للسيد نصرالله، الذي هو كل الروح، ولا أحد يبالغ بهذا الوصف ونحن نشاهد أبطال المقاومة وهم يمضون نحو الشهادة كما يُزف العريس أو يفرح المتخرج بنيله أرفع الدرجات العلمية.
بالأصل، من صدّق أن السيد نصرالله قد استُشهد؟ هذا التعبير ليس مجازيًا، بل هو حقيقي يعيشه كل من أحب السيد نصرالله. أنا لا أستطيع أن أصدق أن القادة أمثال السيد يرحلون. وإن رحل عن عالمنا، فكيف سيرحل من ذاكرتنا وفواصل أفكارنا ونبض قلوبنا؟ وهو الحديث الذي لأجله نرصّف الأفكار، ونرسم الصور، ونحيك الكلمات. كيف يرحل من حياتنا وهو كل الحكايا في حياتنا؟
ولكن في الختام، نحن مجتمع أو شعوب، والشعوب عادة تستمر وتسير، كما الحياة استمرت بعد الأنبياء والقديسين. ولكن، الذي يشعر بفداحة الخسارة هي الأمم التي عملت على تكريس وجودها ورسمت دورها في العالم.
حتى حزب الله، رغم الخسارة التي قد يحتاج وقتًا لتقبلها ولملمة آثارها، قادر على المضي بحزم أكبر وإصرار أشد وعزيمة أقوى وأصلب. خاصةً أن حزب الله، في تأسيس ذاته، مشروع لا يقبل المساومة أو اللون الرمادي في صراعه مع العدو الإسرائيلي. فالشهادة في الحزب كالرتبة في ارتقاء السلم الوظيفي؛ كلما كان القائد في منصب أرفع، كانت تضحياته أكبر. فمن من قادة الحزب وفّر نفسه أو فلذة كبده؟ ومن جلس يبحث عن المكاسب كي يخشى المواجهة حتى الاستشهاد؟
لذلك، لا يوجد من يمكن تهديده بالقتل في حزب الله، وطالما أن الاستشهاد أو النصر هو المطلوب، فقد تعلم هذا الجسم المقاوم كيف يعيد بناء نفسه مرة بعد مرة. وفي كل مرة، يتطور بتقنيات وأساليب أعظم. ويكفي حزب الله أنه حدد الهدف والرؤية بأن إسرائيل هي الشر المطلق.
وبالأمس، استُشهد السيد عباس الموسوي، الذي بكت على استشهاده حتى الأشجار والأحجار. وجاء سماحة السيد نصرالله، الذي أصبح قائدًا لا يتكرر ولن يتكرر، على الأقل في المستقبل القريب. وحتماً، مدرسة عظيمة ومعلم عظيم مثل سماحة السيد نصرالله قد أعدّا قيادة تستطيع أن تضيف إلى بنيان المقاومة أجزاءً أساسية تمنحها المزيد من القوة والاستمرار.
حتماً إسرائيل ستفرح، كما ستفرح داعش وكل من معهما. لكن كم يدوم هذا الفرح في صراع الأمم؟ هل ستجد أوروبا، في حال عادت داعش، قائدًا عظيمًا نبيلاً مثل السيد نصرالله، يقود أبطاله إلى ساحات المعارك ليحارب الإرهاب دفاعًا عن أجراس الكنائس والأقليات العرقية في منطقة الشرق الأوسط، ويمنع سيطرة الإرهاب التكفيري كي لا يصل إلى أوروبا بعد زعزعة استقرار تركيا؟
هل ستكون روسيا كما كانت بالأمس، وهي تقود المعارك في البادية، وجنبها حزب الله هذه القوة العظيمة التي سلاحها الإيمان وعقيدتها الثابتة بأن البشر إخوة في الإنسانية؟ أم ستتحول روسيا الاتحادية إلى دولة وحيدة تعيش على أصوات ولغات واستراتيجيات غير مفهومة في الصراع حول العالم، بعد أن فقدت حليفها السيد نصرالله، الذي ساهم في إعادة إشراكها بالقرار الدولي، بعد أن كاد دورها يتجمد في جليد السياسة الدولية، ومنها أوروبا وإسرائيل نفسها التي تسعى للقضاء على روسيا ونهب ما تمتلكه من احتياطي الغاز الأكبر عالميًا.
حتى غالبية الدول العربية التي شمرت عن ساقيها وجلست على رأس التل تمارس فن القرفصاء وتتفرج كيف يقوم المجرم الإسرائيلي بحز رؤوس الأطفال وتدنيس المصاحف، ويتفنن بحرق النساء وهن أحياء ودفن الجرحى في المقابر الجماعية بعد تدمير المستشفيات على رؤوسهم.
هؤلاء العرب، من سيستقبلهم بعد اليوم ليتعاون معهم في سبيل محاربة القائد السيد نصرالله؟ هؤلاء لم يكونوا على علم أو معرفة بأن وجود السيد نصرالله فرض معادلة وجودهم حتى عند أسيادهم، ولو كانوا يتقنون السياسة لكان أحدهم تعامل مع العدوان الإسرائيلي بأساليب مختلفة.
حتى أمريكا، من سيحميها من اللوبي الصهيوني الذي سيفرض سيطرته على أمريكا دون حسيب أو رقيب؟ أمريكا التي كانت لديها ما تفاوض به وتضغط على اللوبي الصهيوني، عندما كانت تمنّ عليهم بتحييد إسرائيل عن معركة عسكرية مع المقاومة. اليوم، في المعادلة السياسية، أين دور أمريكا العميق؟ لقد أصبح خارج الزمن، كما أصبحت عقلية كيسنجر السياسية خارج المعادلات الدولية بفضل الذكاء الاصطناعي.
في الختام، الجميع خسر أمام فقدان هذا النور الرباني والحضور الإنساني الذي تجلى في شخصية السيد نصرالله، صاحب الكاريزما التي تجعل الملايين كالجماد أمام الشاشات اثناء الخطاب، يأخذون من طاقة حضوره العبور إلى الأمان والإيمان الداخلي.
والوحيد الذي ربح هو فلسطين، التي ارتوت من دماء قديس القدس السيد حسن نصرالله، فأشرقت بنور ربها وأزهرت من الرياحين، حيث فاض البخور بعطر المسك والعنبر.
واليوم تستطيع فلسطين أن تعيش قرونًا طويلة رغم آلة الموت الإسرائيلية، ومن معها من محور الشر والظلام.
اليوم، فلسطين ستخرج من دائرة النسيان، وتصبح جزءًا من كل إنسان عاش أو سمع أو قرأ لسماحة السيد نصرالله الذي ارتقى شهيدًا على طريق القدس.
إلى اللقاء يا سيد الشهداء في زمن الغرباء.