صدّر السيّاب قصيدته /إرَم ذات العماد/ بعتبة نصيّة شارحة يقول فيها: ذُكر عند المسلمين إنَّ شدّاد بن عاد بنى جنّة لينافسَ بها جنة الله هي إِرَم، وحين أهلك الله قوم عاد اختفت إرَم و ظلت تطوف، وهي مستورة في الأرض لا يراها إنسان إلّا مرةً كلّ أربعين عام، و سعيد من انفتح له بابها1
تحليل النصّ: سأحاور القصيدة بآليات تحليل حديثة مثل المستوى المعلوماتي و المعجمي و المجازي، و مستوى التصور الفكري الّذي انطلق منه النصّ، و مرجعية الخطاب المعرفية، يقول السيّاب:
من خلل الدخان من سيكاره/من خلل الدخان
من قدح الشاي و قد نشر، وهو يتلوى إزاه
ليحجبَ الزمان و المكان 2
*في المقطع الأول يبدأ بتراكيب لغوية أشباه جمل، وهي من متعلقات الجملة الّتي تُعرف بالعمدة، و جاءت الجملة في نهاية المقطع تعليلاً: ليحجبَ الزّمن و المكان أما الجملتان /نشوف، وهو يتلوى إزاره فهي في المستوى النحوي توابع تدخل دلالياً في إطار رسم المشهد و الهيئة، و قد رسم الشّاعر الحالة الّتي كان عليها الراوي ليقدّمَ مشهداً درامياً، مهد لسرد الحكاية النابعة من المعاناة على مستوياتٍ عدّة، فالسيكارة في يده ترسل الدخان الكثيف، و ضمير الغائب في لفظ سيكاره يحيل إلى لاحق لم يظهر سابقاً، وهو عنصر إشاري في النص، وقدح الشاي أمامه يرسل أبخرته فأدخلَ الشاعر مشهداً حركياً واضحاً
إذ قام الرواي بلي إزاره، و لما أن نتصور المتحدث (الراوي-السارد) و ما أضفاه على نفسه من هالة، و يصور الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر بالتواري خلف السارد فحلقات الاختفاء أكثر من واحدة فالمتحدث جد أبيه، و في ذلك بُعد زماني تاريخي في فصول الحدث، و الضمير في الفعل ينتشر يحيل إليه، وهي إحالة لاحقة لم تذكر بعد في القصيدة.
و في الفعل يتلوى حركة درامية تتناسق مع حركة الأدخنة المنبعثة من السيكارة و قدح الشاي، وكلّها تعمل على الحجب و تكرار لجملة؛ من خلل الدخان، تأكيداً على الهموم و الرؤيا الغائمة، فهناك رؤيا غائمة و حواجز أمامها أو أمام الأمل المنشود المُتطلع إليه، لكن ثمة ما يلوح في الأفق رغم الموانع، و في التلوي حجب معنوي للأحداث يستشفها الحفيد من حركة جد الأب.
وبرز من المشهد الدرامي الموطئ للقصيدة و استخدم لام التعليل ليكشفَ الشّاعر عن مدلول الدخان و بخار الشاي و نشر الإزار و ليّه فهي عبارات لم تقصد بالمعنى الصفر للمفردة اللغويّة، و قد طوّر الشاعر معنى النشر و الطي و التلوي و الحجب ليأخذَ بعداً مجازياً، لكن ما سبب الحجب أهو للتعمية على الأبناء و عدم الزج بهم بما ينغص عليهم حياتهم و يحير أفكارهم أم لبعد العهد و النسيان؟ يتابع السيّاب؛
حدثنا جد أبي فقال: يا صغار
مقامراً كنتُ مع الزّمان
نقودي الأسماك لا الفضة و النضار
و الورق الشباك و الوهار ٣
نرى بعين الخيال المشهد الافتتاحي و كأنه يقدم عرضاً مسرحياً، نجدُ الجد من حوله الأحفاد و زمان الحدث ماضٍ ( حدثنا) يفيد في استعادة الذكريات في مستواه المعجمي و هو الفعل الافتتاحي للقصيدة.
و ما سبق من تراكيب هي مقدمة درامية تشدُّ القرّاء ليصلوا إلى الجملة المركزيّة التي تبدأ بها أحداث القصة
حدثنا و السارد الشاعر حاضر في النص فهو من رسم المشهد و هو من روى القصة، لكنه حضور من وراء ساتر (جد الأب) تواري، و انا أن نتصور طول المدة الزمنيّة المنورة بدخول الشخصية في النص؛ فالمتحدث جد الأب وليس الجد المباشر مما يرمز إلى تجذر الحدث و امتداد أثره على مدى الأجيال و عدم الانقطاع و الضياع، فالسلف يحدّث الخلف فلا ضياع و لا نسيان مهما طال الزمن.
وهنا يبرز المستوى الفكري:ثمة قضية ضاربة الجذور في النفس، و لها بعد مكاني حاضر في النفس فكرياً وهو إن جد الاب لا يملك الفضة و لا الذهب مع أنها موجودة و إلا لما تمَّ ذكرها مقابل الموجودات الأخرى مثل الأسماك و الشبك التي في حوزته و هي بسيطة واضحة في السياق و هذا يوضح نقطتين؛
*إما أنه فقير لا يملك ما يقيم صلبه و الأسماك متوفرة للبسطاء .
*مادة التداول بين الناس هي العرض و الطلب /تبادل السلع/ ولكن عند محاورة لفظة ( مقامراً مجد مفتاح التفسير فالمقامرة تعني التفريط و العبث و عدم الانتباه للنفس، و ضياع الجهد و الوقت و المال.
مقامراً كنت مع الزمان:نلاحظ أنه قدم خبر كان على اسمها لأهمية المتقدم و الأهمية ليست للمقامرة بحدّ ذاتها و إنّما لما ترتب عليها من ضياع فهو يشير إلى تفريطه بالذهب و الفضة.
و ينسل الشاعر من مشهد الحضور و الاستماع، لكن أهو خروج المحتج على ما سمع من ضياعٍ و إهمال من الراوي أم لماذا؟
نستقرئ الجو العام للمشهد و نلمس الأسباب التي دعته للخروج فليس في القصيدة ما يفسر الحدث مباشرةً.
وها هو جد الأب يطور المشهد ليصطاد في خور الرميلة العميق؛
و كنت ذات ليلة
كأنما السماء فيها صدأ وقار
أصيد في الرميله
في خورها العميق أسمع المحار
موسوساً كأنّما يبوح للحصى و للقفار
بموطن اللؤلؤة الفريدة
فأرهف السمع لعلي أسمع الحوار
و بأسلوبٍ قصصي شيق ننتقل إلى مشهد رحلة الصيد في الخور يصف الليلة المظلمة في منطقة الرميلة و كأن السماء مكتسية بالصدأ و القار مما ينبئ عن نفسية المتحدث لا واقع الظاهرة الطبيعية و اختيار الصدأ و القار ليس عبثياً أو اعتيادياً فالصدأ يدل على التآكل و الاهتراء و ما بعد إلا الفناء و القار فيه بؤس و شقاء و لو كانت أيامه هانئة لما وصفها بهذا الوصف.
و الألفاظ هنا ذات بعد معجمي أكسبتها التراكيب بعداً مجازياً يشي بدلالاتٍ نصية متناغمة مع الحالة العامة للنص.
و لفظ ( أصيد و العميق) لم بخرج عن معناه المعجمي أما الأسماء المحار، الحصى، القفار، اللؤلؤة) فمقترنة بالأفعال، واسم الفاعل موسوس أخرجها عن كينونتها و منحها بعداً دلالياً آخر فهي كائن يبوح و تفاعل معها الصياد مرهفاً السمع في حالة إنسانية فريدة.
و يتابع الراوي السارد حديثه عن ليلة الصيد في الرميله قائلاً:
و كان من ندى الخريف في الدجى برودة
تدبُ منها رعشةٌ في جسدي فأسحب الدثار
و يحدد السارد على لسان الشاعر زمن الصيد وهو فصل الخريف و فيه برودة و ندى، و اختار الخريف ربّما لأنه قام و أضاع الموسم فهو بائس لا يملك الفضة و الذهب فأختار الخريف لأنه كالح المنظر و هو فصل الشيخوخة و الدخول في السبات،و اقتراب الموت، و في هذه الليلة الممزوجة بالبرودة/ تدب/ تزوج في سيطرة الرعشة على الجسد، إلى أن وصل إلى الاستسلام لقوى الطبيعة فسحب الدثار على جسده، فهل هو ذاهب ليصطاد أم لينام؟ و هو يسمع وسوسة المحار و يرهف سمعه لها علّه يستدل على موطن اللؤلؤة الثمينة لكن جسده يستسلم للرعشة و النوم….
فهل يمكننا القول إن الخريف هو خريف العمر بما تحمل تلك الدلالة من استسلام و وهن و ضعف للجسد البشري أمام تحديات الحياة، فكانت النتيجة التخلي عما لا يطاق في هذه المرحلة من العمر، ثم الاستسلام للنعاس الذي يحمل السبات عن الحياة، و لو بعدم الفاعلية، لكنه على كل حال سحب الدثار على نفسه ولم يدخل مرحلة النوم، لأنّ عينيه ما زالتا تتطلعان إلى الحياة و ينتظر أن تمسكَ شباكه بالصيد لذلك يلحظ في السماء انفراج الغيم……
و للقصة بقية مشوقة… انتظروها
1.السياب، بدر شاكر، الأعمال الشعريّة الكاملة، ص ٣١٧-٣١٨
مديرة ملتقى عشتار الثقافي