المجتمعات كالأجساد أو كسائر مكونات الكيان البشري تمارس نوعا من عمليات التعقيم الذاتي وتستجمع ما فيها من أفكار ومعتقدات تسير في عكس مسار الطبيعة وتشكِّل منها نوعا من كتل القيح والدمامل يتم التخلص منها لاحقا في لحظات مؤلمة تحتاج حكما بعض الألم والنزيف, في جسم الإنسان تثور الميكروبات وتشكل كتل من الالتهاب المليء بالقيح وتنشئ مستعمرات وما يلبث الجسم بدون أي عون من الخارج أن يبدأ بالدفاع عن كيانه وما تلبث هذه المستعمرات أن تنكفئ على نفسها لأنها أصلا غريبة وضد الطبيعة ومن ثم تجد لها مخرجا إلى الخارج وتزول بعد أن يقضى على بعضها إلا انه قد تتمكن البؤر من الجسم في حالة ما إذا كان الجسم ضعيفا ومهترئا وتاريخه الطبي والصحي سيء وقد تستفيد من كون الجسم متأثر بالكحول وسوء التغذية وعدم الكفاءة الرياضية وهذا يشبه بيئة حاضنة وداعمة للبؤر الالتهابية تؤخر شفاءه .
وفي شكلٍ مشابه تتخلص المجتمعات من القيح عبر أحداث مأساوية تختزن الكثير من الدماء والمأساة والعنف, على هذا المستوى كافة المجتمعات لديها قيح تراكمه وتتخلص منه في صراعات مأساوية غالبا ما يغذيها عنف من خارج سياق الطبيعة وغالبا ما تقترن بعبارات من قبيل : يا الله من أين أتى كل هذا الحقد ؟ أو يا الله في أي غابة اختبأت قبلا هذه الذئاب ؟ أو يا الله ….. وبالنتيجة هذا العنف الشاذ الذي يرافق التخلُّص من قيح الجماعات هو ضرورة لتخليص الجسم المجتمعي من بعض فساده وإعادة الأمور إلى بداياتها الطبيعية .
إن أساس الفساد والأفكار السرطانية التي تتراكم في القيح يتأتى من أن كافة الجماعات لديها نزوع إلى سلوك طريق مختصر يوصلها إلى مصاف أبناء الآلهة أو الفرقة الناجية التي اختصتها السماء بالمعرفة المطلقة وتاليا بالأرض والجميع يعتقد في مكان ما من لاوعيه والبعض يعتقد في مكان ما من لا وعيه ومن وعيه انه الأكثر قدرة والأكثر استحقاقا لخلافة الله وتمثُّل إرادته في أرضه, طبعا هذه الفكرة قد تختبئ بين دفتي كتاب أو بين أفكار الكهنة ورعاع القوم لكن الإيمان بها يتراكم ويتكثَّف وقد يتزاوج في لحظة شؤم من التاريخ مع ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ليتساقط المطر الحامضي الأسود ويخرج على وقع تساقطه المخبوء من باطن الأرض مفاجئا الجميع بقدرته على الاختباء والظهور المفاجئ .
حدث ذلك في تاريخ الجماعات كافة وربما يكون التجمع الأبرز للقيح في العصر الحديث هو الحزب النازي الذي استجمع فيه التاريخ الألماني خلاصة محتواه من قيح أفكار الصفوة والتفوق والإلغاء والفرقة الناجية والشعب المختار التي مثل الفقاعات على سطح المستنقع وجرت محاولات لنسج خيوط تربط العرق الأصفى بسلالة المسيح المقدسة وبحث النازيون لأجل ذلك في متروكات وآثار فرسان الهيكل ثم انفجر كل شيء في لحظة شؤم وتدفق القيح والدم والخراب لكن وعلى عادة الطبيعة تلقى الجسد الألماني التعقيم الملائم خلال المأساة وعاد إلى الحياة, وفي أحداث مشابهة عاش الكمبوديون حدثا قيحيا على يد الخمير الحمر الذين ادعوا امتلاك الحقيقة المطلقة ومارسوا العنف على نطاق واسع وحصدوا مليونا من الضحايا قبل تعود كمبوديا إلى طبيعتها وتسترد قابلية الحياة والتعايش .
استطيع أن أقول أن أكثر البلدان استجماعا للقوة هي أكثرها استجماعا وإفراغا للقيح في وقت سابق فالولايات المتحدة شهدت موجات من الأحداث القيحية بدأت بحروب الإبادة بين المهاجرين والهنود الحمر وهي أحداث تم بناؤها على فكرة الأرض الموعودة والشعب المختار ثم تكرر الأمر بين المهاجرين أنفسهم من ايرلنديين كاثوليك وبريطانيين بروتستانت في مأساة تم إخراجها سينمائيا عبر فيلم (GANGS OF NE YORK) ثم عاد القيح ليتجمع لدى المتعصبين البيض اتجاه الزنوج من خلال عصابات الكوكلاس الشهيرة التي تبنت ومارست ثقافة الشعب المختار ثم وبعد سلسلة من الاهتزازات المتكررة افرغ المجتمع الأمريكي القيح المتراكم بين مكوناته لتتجمع ذاكرة القيح خلال التاريخ الامريكي كله وتتكثف في نظرة الأمة الأمريكية صاحبة الهداية إلى من هم سواها من الشعوب المتوحشة وتتدفق في سلسلة من الحروب التي لا تعرف نهاية .
طبعا لم تكن أوروبا في منأى بل ربما هي احد أكثر منابت فكرة الشعب المختار أصالة فالصليبيون الذين اتجهوا إلى المدينة المقدسة لإعادتها إلى نصاب الحقيقة المطلقة التي يمتلكون مارسوا عنفا عشوائيا اتجاه مسيحيي الكنيسة الشرقية في قسطنطينية ثم أكملوا إفراغ قيحهم في البلاد الممتدة على طول طريقهم إلى القدس ويبدو أن عنف الحروب الصليبية وكمية الدم التي أريقت فيها لم تكن كافية لإفراغ قيح الأوروبيين الذي استمر إفراغه من خلال اشتعال الصراع الديني في أوروبا عقب الحروب الصليبية وانشقاق الكنيسة الغربية حيث ظهر ذلك الصراع مثل الإفراغ الأكثر شناعة للقيح قبل أن يعاود الجسد الأوروبي قدرته على الحياة معافى من الأرواح الشريرة للجماعات الناجية التي تلبَّسته طويلا لكن تطهير الجسد الأوروبي من الداخل ألقى ببساطة حمولة تاريخ أوروبا من القيح في نظرتها إلى الجوار القريب والبعيد من خلال النظرة الاستعمارية التي حملها الأوروبيون إلى سواهم من الشعوب في سلسلة من صراعات إمبراطورية لا تعرف نهاية .
طبعا لم تخرج المنطقة الإسلامية عن قانون الشعب المختار السيئ الذكر حيث نجد الأتراك الطورانيون وهم أبناء قبائل قدمت من آسيا الوسطى احتفظوا بالذاكرة القبلية التي تستبيح سواها من القبائل, ومارسوا هذه الذاكرة اتجاه الكثير من الشعوب التي اعتقدوا بطريق الخطأ أنها قبائل يتعارض وجودها مع وجودهم كالأرمن والعلويين واليونانيين, وفي المنطقة العربية سيطرت فكرة الفرقة الناجية بفجور أكثر مما هو الحال لدى شعوب كثيرة أخرى في العالم, من العدالة القول أن جميع الفرق والأطياف الإسلامية أصابها إغواء الفرقة الناجية وهي في ذلك كسائر الجماعات الأخرى احتفظت باعتقادها هذا في النصوص الخاصة ولم تجاهر به إلا في حالات من القوة تكفي لإشهار العفن دون مراعاة لوجود الآخرين وإذا صح القول فان الإسلام السياسي الذي حكم المنطقة خلال قرون متتالية في العصر الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني وانتهى حاليا إلى حركات أصولية كالإخوان المسلمين والقاعدة تعاني من التيه بعد سقوط الخلافة وفقدان السلطة وانكسار "عصى موسى " وتبعثر القطيع , هذا النمط من الإسلام امتلك على الدوام إحساسا بالقوة, أصبح وهميا ومخادعا الآن بعد افتقاده للسلطة إلا انه كافي لإعلان ما تكتم عليه الآخرون من اعتقاد الفرقة الناجية وهذا الاعتقاد الشاذ السرطاني الخارج عن الطبيعة تجمع وتراكم وتكثف فيما يلوح في المشهد من حركات تكفيرية تعلن جهارا نهارا أنها موكلة بإقامة دولة الله وتعمل على ذلك بقوة السيف وهي في مجملها تمثل كتلة قيح يستدعي تفجيرها الكثير من الألم والمأساة لكنه أمر لا بد منه عاشته شعوب أخرى على طريق العودة الى الحياة والتخلص من تراكمات القيح .