إذا كانت الحروب الوقائية التي شنها بوش الصغير على العراق و أفغانستان بدعوى مكافحة الإرهاب هي السمة الأبرز لحقبة ما بعد الحرب الباردة ، فإن حقبة الحرب الفاترة التي دشنتها "الأزمة " السورية باتت تتميز باستخدام إدارة أوباما للإرهاب كوسيلة لارتكاب جرائم العدوان و ذلك في استعادة واضحة للأسلوب الإجرامي الذي طبّقته واشنطن في تعاطيها مع بعض دول في أمريكا الجنوبية التي قررت ـ في فترة من الفترات ـ شق عصا الطاعة الأمريكية على غرار كوبا و نيغاراغوا و تشيلي.
سواء كنا أمام وصفة بوش القائمة على ارتكاب جريمة العدوان بدعوى مكافحة الإرهاب ، أو وصفة أوباما القائمة على استعمال الإرهاب كوسيلة لارتكاب جريمة العدوان فإن الأمر يبدو سيان ليس فقط لجهة تعارضه مع القانون الدولي ، بل لجهة تعارضه مع جملة من المواقف " الأخلاقية " التي اطلقتها الإدارة الأمريكية في فترات تاريخية معينة ، و عليه فلطالما كان مفهوم الحرب الوقائية ( أي الحرب التي تُشن لشبهة توافر نية الاعتداء لدى الخصم) مرادفا لجريمة العدوان التي تستدعي تدخل مجلس الأمن وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، و الأكثر من ذلك هو أن واشنطن كانت أول ضحايا هكذا نوع من الحروب عندما قامت اليابان بقصف القوات البحرية الأمريكية في ميناء بيرل هربر ـ بدعوى وجود نية لدى واشنطن لدخول الحرب العالمية الثانية لجانب الأوربيين ـ يومها صرّح روزفلت أن هذا السلوك اللاخلاقي " سيكلل اليابان ـ و إلى الأبد ـ بالخزي و العار" .
هذه الإدانة لمفهوم الحرب الوقائية لم تمنع واشنطن من مقاومة إغراء ارتكابها بهدف تعزيز هيمنتها على العالم ففي تشرين الأول من عام 2002 منحَ الكونغرس الأمريكي لجورج بوش الصغير صلاحية التوجه إلى العراق للقضاء على أسلحة الدمار الشامل التي يكدسها الرئيس صدام حسين بغاية إبادة الشعب الأمريكي "الذي سيصحو ذات يوم ليرى غيمة نووية في سماء نيويورك " و ذلك على حد تعبير كوندوليزا رايس في 3/ 9/ 2002، الحملة الإعلامية سبقت شن الحرب الوقائية ضد العراق كانت من التضليل بحيث أصبح ستون بالمائة من الأمريكيين ـ و قُبيل أسابيع من الغزو ـ مقتنعين بأن صدام حسين يُشكل خطرا مباشراً على الولايات المتحدة ، و انّه متورط شخصياً بأحداث الحادي عشر من أيلول ، على حين كان تسعون بالمائة على يقين بأن صدام حسين يساعد و يموّل الإرهابيين الذين يخططون لتوجيه ضربات مستقبلية ضد الولايات المتحدة.
عملية غسل الأدمغة تلك علَّق عليها المحلل السياسي اناتول ليفين قائلاً بأن "معظمَ الأمريكيين قد خُدِعوا ببرنامج دعائي قلّما نجد نظيراً له في الديمقراطيات زمن السلم لكثرة أكاذيبه المنهجية ". المفارقة التي يذكرها نعوم تشومسكي هو أنَّ مفاعيل هذه الدعاية استمرت حتى بعدَ انتهاء الحرب ، إذ ظل ثلث الأمريكيين يعتقدون بأنَّ القوات الأمريكية عثرت على أسلحة دمار شامل في العراق ، و أكثر من عشرين بالمائة من الأمريكيين ظلّوا يعتقدون أنَّ العراق قد استخدمها أثناء الحرب ".
حملة التهويل الإعلامي هذه أرادت واشنطن من خلالها أنْ تعفي نفسها من تقديم الأدلة على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أملاً بتشكيل تحالفٍ دولي تحتَ مظلة مجلس الأمن يذهب لغزو العراق ، و لكن عدم حصول ذلكَ لم يكن عائقا يمنعها من المُضي في غيّها فقد أعلن كولن باول في شباط 2003 : " إننا ذاهبون إلى الحرب بتفويض من الأمم المتحدة أو بدونه ". وقعت الحرب واكتشف العالم أنْ لا وجود لأي شكل من أشكال أسلحة الدمار الشامل في العراق، و ليتبينَ لجميع أبناءه ـ معارضين و مواليين ـ بأنَّ الدمار الشامل جاء مع الغزو الأمريكي لبلدهم.
ما فعله الأمريكيون حين انفضاح " أكاذيب الدمار الشامل" في العراق هو أنهم ـ و بدلَ أن يتلوا فعل الندامة و يدفعوا للشعب العراقي 34 ترليون دولار كتعويض للخسائر التي لحقت بثرواته الوطنية ـ راحوا ينحون باللائمة على نظرية " الحرب الوقائية " التي استندوا أليها لتبرير عدوانهم أمام الرأي العام العالمي، و التي ارتئوا تعديلها بشكل ينسجم مع أكاذيبهم ، أي بشكل يسمح لواشنطن أن تشنَّ حروبها ليس في حال ثبوت امتلاك الأسلحة الفتّاكة بكميات ضخمة من قبل دول مناوئة للولايات المتحدة ، بل لمجرد توافر النيّة لدى هكذا دول بامتلاك أو تطوير أسلحة الدمار الشامل" و ذلك بحسب ما أوردتْه آل( واشنطن بوست) في الأول من حزيران 2003 على لسان مسؤولين كبار في الإدارة الأمريكية.
في سوريا لم تستطع نظرية الحرب الوقائية أن توفر للأمريكيين و حلفائهم ورقة توت ـ و لو مُثقبة ـ تمكنهم من التستر خلفها في مواجهة العقلاء من ناخيبهم والذين استوعبوا درس العراق بحسب ما اشارت إليه ردود افعالهم ساعة أعلن أوباما عزمه على التدخل عسكريا في سوريا، هكذا تدخل كان الهدف منه ـ بتقديرنا ـ تسريع إسقاط الدولة السورية "بالضربة القاضية"، لكن حينما بدا هذا الأمر صعبا قرر أوباما المُثابرة على خطته في إسقاط الدولة السورية "بالنقاط " أي عبر استنزافها في حرب بالوكالة يشنها الإرهاب المدعوم من واشنطن وحلفاءها في المنطقة.
في اعتماده الإرهاب وسيلة لارتكاب العدوان لا يأبه أوباما بحقيقة أن كل المستثمرين بالإرهاب هم إرهابيين وذلك بالاستناد إلى المدونة القانونية الأمريكية التي عرّفت الإرهاب على انه " اللجوء إلى عمل عنيف أوالتهديد به بغاية التأثير على حكومة أوالتهويل على جمهور بهدف الترويج لقضية سياسية أودينية أو ايديولوجية "، وبالاستناد الى التعريف الذي وضعه جورج بوش الابن للإرهابي حينما أعلن انه " إذا كنت تؤوي إرهابي فانت إرهابي، وإذا كنت تساعد أو تحرض إرهابيين فانت إرهابي، و من ثم يجب أن تُعامل معاملة الإرهابي ".
قد يكون مفهوما أن ينكر القاتل الجرم الذي ارتكبه ، فإنكار الأفعال الشنيعة بحد ذاته ينطوي على استدعاء ـ و لو يائس ـ للذات البشرية النقية، أما أن يُقدم القاتل كل الوثائق والأدلة التي تؤيد ارتكابه للجريمة فهذا أمر لا يمارسه إلا من استمرئ قتل الإنسانية .. الأمريكي.
في روما جرت العادة أنْ تُقام للقادة المنتصرين احتفالات مهيبة لدى عودتهم من معارك حملت المجد لبلادهم، في تلك الاحتفالات كان شعب روما يقدم واجب التحية إلى القائد المُنتصر الذي ـ وبدوره ـ يرد التحية بمثلها وهو جالس في عربته الذهبية، ما كان يجهله عامة الرومان في ذلك الزمن هو أنَّ القائد المُنتصر لم يكن يجلس بمفرده في العربة، ففي جزئها المخفي كان يجلس عبدٌ زنجي مهمته أنْ يهمس ـ بين الفينة والأخرى ـ في أذن القائد المنتصر عبارة لو سمعها قتلة العالم الجديد فربما فكروا مرتين قبل أنْ يحولوا عالمنا إلى جحيم، العبارة تقول " سيدي ، تذكر بأنك فان ٍ " ، فهل يعتبر مرجل الأحقاد الأمريكي ـ الاقليمي ـ الغربي ؟.
د. عصام التكروري