محمد أبوزيد عبدالله
بعد أن نشرت الجزء الأول عن الدولة الحمدانية فى حلب ، وجدت أن التأنى مطلوب بشدة وذلك للإلمام بأكبر قدر من المعلومات ، وإزالة حقول الألغام وما أكثرها ..فما نراه اليوم ، ونشمئز منه ، من إقصاء وتشكيك وتكفير ، وتصغير متعمد لذوى الشأن الكبير ، محفور فى بطون كتب التاريخ وماكان على أصحاب الفكر التكفيرى من الوجهة الدينية والاجتماعية سوى إستخراجه وإستخدامه دون إعمال العقل ، ودون أدنى محاولة لقراءته قراءة ناقدة ..
ودعونى أعترف لكم وقد قرأت عن الدولة الحمدانية بشقيها فى الموصل والعراق ، أن الكتابة عنها بموضوعية شاقة جدا ، فعلى الرغم من غزارة ما كتب عنها ، إلا ان القاسم المشترك بين جميع من كتبوا هو الوقوع فى خطأ النقل والسرد دون تبصر ، ودون تمعن
ولكم ان تتخيلوا معى كمثال ، خلو المراجع من تحديد تاريخ إعتناق الحمدانيين للإسلام مع التركيز الشديد على مسيحيتهم وتعاطفهم مع الخوارج ، وايضا الخلاف الشديد حول ماهية الدولة الحمدانية فى حلب ، هل هى زيدية ام أثنى عشرية ؟ فى محاولة خبيثة لنفى أى دور للإثنى عشريين فى الزود عن الإسلام ودياره …
لهذا وجدت نفسى أعود إلى الإطار المنهجى الذى وضعته فى إطروحتى العلمية منذ سنوات والمتعلق بكيفية قراءة التاريخ قراءة ناقدة ..
فقد قلت ان الموضوعية تقتضى ان يدخل الباحث إلى عالم الموضوع بحياد ودون إلتزام بتوجهات ثابتة او الخضوع لمقولات سابقة ، إلى أن تتكشف حقائق الموضوع مجردة . إلا انه من الصعب أن نبحث فى التاريخ بحياد مطلق صارم بعيد عن تأثيرات ذات الباحث وتفضيلاته ( فآفة التاريخ تفسيره ، وأنه صناعة مؤلفه ، وأنه رؤية معاصر لماض بعيد ) .وبمعنى اخر يصعب على الباحث ان يفصل بين وضعه الثقافى العقائدى ، وبين موضوع الخلاف الذى يتعلق اساسا بحركة المصالح البشرية المتناقضة . بيد أن إستناد الباحث إلى أكبر قدر من المعلومات مع إستخدام لغة محايدة يجعل من البحث أقرب للموضوعية ..
فهناك فارق أساسى بين :
_ تسجيل وقائع التاريخ
_ والبحث فى تلك الوقائع لكتابة موضوع ما .
فالتاريخ هو تسجيل الوقائع التاريخية أولا بأول ويوما بيوم وسنة بسنة ، ومن يقوم بهذه المهمة يسمى المؤرخ ويعرف أيضا بكاتب الحوليات أو الإخبارى . ( د. عاصم الدسوقى _ تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر بين مأذق التسجيل وورطة التحليل _ مجلة اوراق اشتراكية _ العدد ١٧ صيف ٢٠٠٧ …ولنا ان نبدى الأسف العميق على الموقف الذى اتخذه د. عاصم الدسوقى من مسألة تنازل القيادة المصرية عن السيادة على جزيرتى تيران وصنافير حيث أفتى بسعودية الجزيرتين ) .
اما البحث فى موضوع ما فى التاريخ فشئ آخر غير التسجيل ، ويبدأ من حيث تنتهى عملية التسجيل ، واول خطوة فى طريق البحث تبدأ بتنظيم المعلومات المسجلة حسب الموضوع المراد بحثه وتكتسب مقولة ( لا تاريخ دون وثائق ) مصداقية كبيرة عند الباحثين فى التاريخ ، فهى بمثابة القانون الذى يوجب على كل باحث الإلتزام به عند إعداد بحث فى موضوع ما … ولا يعنى هذا إقتصار البحث على الوثائق فقط رغم أهميتها ، ولكن الوثائق تمثل جوهر المادة موضوع البحث ، وبدونها يفقد البحث أصالته ومصداقيته .
وتنحصر معظم مصادر تاريخ العصر القديم والعصر الاوسط وشطر كبير من من التاريخ الحديث ( وهناك اتفاق على ان العصر الحديث يبدأ بالقرن ١٦ الميلادى ) فيما تركه هؤلاء المؤرخون ولعل أهمهم :
عبدالرحمن بن الحكم ، الكندى ، الخطيب البغدادى ، ابن عساكر ، ابن عذارى ، ابن مسكويه ، ابن الأثير ، ابوالفداء ، المسعودى رشيد الزمان الهمزانى ، ابن خلدون ، المقريزى ، العسقلانى ابو المحاسن ، ابن تغرى بردى ، ابن الصيرفى ، السخاوى ، احمد بن اياس ، ولعل اشهرهم فى كتابة تاريخ مصر ، محمد احمد بن إياس فى كتابه ( بدائع الزهور فى وقائع الدهور ) وعبد الرحمن الجبرتى فى كتابه ( عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ) ..(يسرى عبدالغنى _ مؤرخون مصريون من عصر الموسوعات _ سلسلة تاريخ المصريين العدد ١٦٨ _ الهيئة المصرية العامة للكتاب )
فلم يستطع سقوط بغداد العباسية فى الشرق ( ٦٥٦ هجرية _ ١٢٥٨ ميلادية ) ولا ضياع الأندلس فى المغرب على يد الأسبان ، ان يذرو الكيان العربى فى وجه الرياح ، فحين إضطرب اللواء فى أيدة الحكام والملوك تقدم العلماء فصانوا للعروبة ماضيها ، وجمعوا الرصيد الحافل لإثراء حاضرها ومستقبلها