تشير قصص الخليقة الأولى إلى صراع دائم ومتجدد بين الخير والشر، في محاولة لبسط السيطرة والنفوذ –بعيداً عن الرسائل السماوية في فلسفة متقاربة- على المتاح والمقدر من موارد الحياة ومقدراتها التي جعلها الله جل وعلا لعباده نعمة للترفيه والعبادة من جهة، وليستعينوا بها على مصاعب الحياة ومعوقاتها من جهة أخرى. وقد تطورت أدوات هذا الصراع ووسائله وفقاً لتطور البشرية والعقل البشري، وانتقال الكائن البشري المسمى إنساناً من العيش الثنائي إلى تشكيل الجماعات والكيانات والدول والأمم. وقد تبدلت أدوات ومشاهد كثيرة في هذا الصراع لكن الهدف والمقصد لم يتبدل، فما هو ثابت بقي على حاله، لكن المتبدلات ارتدت أزياء مموهةً بما يتناسب والعصر الحضاري وتقدم الشعوب التي تقود هذا التطور على خلاف ما يتناوله البعض في الفترة الأخيرة من الأيام التي نشهدها تحت مسميات الربيع العربي أو ربيع الدجال، وعليه يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: إذا كان الموقف المتحول والمتبدل هو الثابت الوحيد في العلاقات الدولية، فلماذا مازلنا نحن العرب أمة متخلفة وقد كنا في فترة من الزمن أصحاب حضارة، ولماذا انتقلت أوروبا في العصور الوسطى من الظلام الدامس إلى نور العلم الساطع، ولماذا…. ولماذا ……. كلمات وأسئلة تدور في ذهن المثقف العربي، والإجابة تكمن في أن الثابت شيء والمتحول شيء آخر في العرف الدولي وإن تبدلت مظاهره في المشهدين القاتم والساطع على حد سواء. ولنبدأ من الثابت العالمي في السيطرة على العالم تاريخياً في قصة الخليقة الأولى ورمزية الشيطان والتفاحة، أو في قصة سيدنا موسى عليه السلام وفرعون الطغيان، أو في قصة أخوة سيدنا يوسف عليه السلام، أو في فترات لا تعتبر بعيدة المدارك عن تفكيرنا المعاصر بين حروب الروم والفرس، أو حروب داحس والغبراء، والتي استمرت بين الأجيال والأمم المتجاورة أو المتحاربة إلى أيامنا هذه، مع تبدل الأدوات تارة، ومع تبدل فلسفة التطبيق تارة أخرى، ليتحول الصراع من أجل السيطرة بشكل مؤقت إلى صراع ظاهري بين الأديان كما في خديعة الحروب المسماة بالحروب الصليبية، أو إلى صراع ظاهري بين الحضارات أو المذاهب الفكرية والعقيدة السياسية كما في الصراع بين الرأسمالية أو الليبرالية مع الاشتراكية والشيوعية. أما المتحولات فهي كثيرة تختلف باختلاف الأدوات التي تتبعها الكيانات وفقاً لأهدافها المباشرة وغير المباشرة، ولنبدأ بإحدى الأدوات التي ترتبط مباشرة بعالمنا العربي أو المنطقة المسماة الشرق الأوسط، والتي نتبين من خلالها هذه المتحولات، ولنبدأ من عام 1776 عندما أنهى وايز هاوبت وضع المخطط الشيطاني الهادف إلى السيطرة على العالم من خلال تدمير جميع الحكومات والأديان الموجودة، عن طريق تقسيم الشعوب التي يعتبرونها قطعاناً بشرية، بحيث تصبح معسكرات يجري تسليحها وتدبير حوادث مختلفة فيما بينها كل فترة حتى تتصارع إلى ما لانهاية حول قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها من الأمور الأخرى، وكان من أدواتهم استخدام الرشوة والجنس واستقطاب الكفاءات العلمية والابتزاز والتهديد والاغتيالات وغيرها من أقذر الأدوات التي لا تخطر على بال البشر. الأمر الذي تجلى عملياً من خلال: o نشوء دولة الكيان الصهيوني في المنطقة دون حدود معلنة، من خلال سلب الحقوق وانتهاك الحريات، وزرع بذور الفتن، والعمل من أجل السيطرة على الموارد التي تتحكم بمصير شعوب المنطقة كما في الحدود المعلنة غير المنتهية من الفرات إلى النيل، وكما يتم تنفيذه حالياً بمحاولة التحكم بمنابع النيل. وتدمير الجيوش العربية القوية عملاً بتوصية بن جوريون بأن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار دول ثلاث…مصر والعراق وسورية . o أهداف تضعها الشعوب نصب عينيها على أنها ثوابت مرحلية في مغالطة تاريخية كبيرة بحق الحضارة خاصة، وبحق شعوبها على وجه العموم، وهي الصراعات الدينية والمذهبية، حتى أضحت الحروب المذهبية في منطقتنا من الأهداف البارزة للعديد من الدول والشعوب التي تحكمها، وقد شابهت في مكانتها عند البعض الحروب مع الكيان الصهيوني، فكانت الدودة التي نخرت الشرق الأوسط كما التفاحة، وقد ساعد على تغذية هذه الدودة الموقع الجغرافي والتوزيع الديموغرافي لكل من إيران والعراق والمملكة العربية السعودية والبحرين والكويت. كما عملت القوى الراغبة في السيطرة على العالم على تضخيم هذا العامل ابتداء من مخاوف دولة الشاه على الطابع الديني لإيران وصولاً إلى إذكاء النزعة المذهبية بين حكومتي العراق وإيران بعد قيام الثورة الإسلامية فيها، وقد تجسدت هذه النزاعات في وجوه عدة، وصلت حتى دمشق في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات فيما سمي آنذاك أزمة الإخوان، وهاهي تتكرر مجدداً منذ احتلال القوات الأنجلوسكسونية للعراق العربي الشقيق، في إعادة تغذية الدودة المذهبية في إذكاء صراعاتها الداخلية، حتى حاول البعض التقليل من انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان على خلفية الغطاء المذهبي الذي ترعاه القوى الكبرى الراغبة في السيطرة على العالم، كما استخدم الغطاء نفسه في الأحداث الأخيرة التي تشهدها سورية. o تفعيل حروب عربية- عربية لا يعرف فيها القاتل لم قَتل ولا المقتول فيم قتل، عملاً بوصية الثعلب الأمريكي هنري كيسنجر بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973، الذي أوصى بالقضاء على ثلاث جيوش عربية هي الجيش العراقي والمصري والسوري. والآن ماذا حصل في هذه الثوابت والمتحولات الدولية في منطقتنا عموماً وفي سورية على وجه الخصوص؟ لقد عملت أمريكا على إسقاط العراق ومن خلفها سورية ذات الصلات المشتركة معها- فالإنسان واحد والحضارة نفسها- انطلاقا من تدمير الجيش العراقي كما صرحت به الشمطاء رايس "بعد ذلك التاريخ لا تعول على قيام الجيش العراقي بأي عمل نحو الكيان الصهيوني" في خطوة تعتبر نقطة البداية المتجددة نحو تطبيق تقسيمات خريطة الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى إليه الإمبريالية العالمية، فكانت التهديدات لسورية في محاولة لإذكاء نار التطرف في بذور الفتن التي زرعوها سابقاً، والتي لم تنجح رغم خطواتهم المفضوحة في أعقاب اغتيال الحريري، وعدوان تموز، والحصار الاقتصادي على سورية، ومن ثم التلويح بالعصا الصهيونية في عدوان غزة، ليأتي المشهد الأخير من السيناريو المتبدل في التوجه نحو البداية الإفريقية المغاربية وصولاً لمنطقتنا، والتي نجم عنها بعد تدمير العراق، تقسيم السودان وحرق الدولة الليبية، وإنهاء القوة اليمنية، وزرع الفوضى في مصر وجر جيشها إلى مستنقع الحرب مع العصابات التكفيرية، والتي ترافقت مع نهب مياه العرب في دجلة والفرات والنيل، والعمل على إسكات الدولة السورية بتدمير بنيتها التحتية وإضعاف جيشها، ليأتي بعدها العمل على سلب الكرامة العربية مما تبقى من شعوب عربية متحررة في شبه الجزيرة العربية والقارة الأفريقية. إلا أن صمود الجيش العربي السوري ومن خلفه الكرامة العربية الأصيلة التي يتمتع بها الشعب العربي في سورية قد ألغت جزءاً هاماً من المشروع المتصهين إن لم نقل نصفه، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة في خريطة تغيير العالم، تنبثق من رؤى قديمة تطفو على الساحة الدولية بعد الثورة السورية البيضاء التي قادتها الدبلوماسية السورية في مجلسي الأمن والأمم المتحدة، والتي أعلنت من خلالها انتهاء التفرد والقطبية الوحيدة في العالم، والتي تجلت برؤية عالم جديد يفاضل بين الثنائية المتفردة والتعددية المنبثقة من التحالفات الدولية، أو سيطرة متبدلة على العالم تقوم على نتاج التكنولوجيا الرقمية في عالم ما بعد الثورة الصناعية والحضارة الإنسانية، أو سيطرة تقوم على تفعيل الثوابت الدولية في المشهد المعاصر من خلال الموقع الجيوسياسي والجيواستراتيجي. والتي نرى أن تحديد مستقبلها يرتكز على نجاح البعد العالمي للعولمة في التفرد بقيادة العالم، وعلى نجاح القوى المتآمرة في زرع وتكريس بذور التطرف الاجتماعي والعنف في نفوس الشباب المقبل على الحياة برؤية تستند إلى أحداث العنف والدماء التي تشهدها ساحات العالم المختلفة، وإلى الثقل الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي يعيد إلى أذهاننا مناطق التوازن بين أقطاب العالم القديم في أعقاب الحرب الباردة، وأخيراً وهو الأهم إلى دورنا في مواجهة الأزمات التي يرى فيها علماء الأمة أنها تمثل عجز الإنسان عن إدارة أموره بنجاح وحنكة، خاصة أننا ما زلنا في امتحان إدارة الحدث الموصوف بالأزمة والتي ألبسها العدوان الخارجي الهمجي علينا لبوس الحرية المتشدق بالفكر المذهبي المتطرف. ليبقى في الختام السؤال الأهم على المشهد الدولي في مقر صناعة الحدث العالمي السوري: هل تتغير ثوابت العالم بعد الصمود السوري ونرى تبدلاً ما بين أدوات تطبيق الثابت والمتحول في السياسة الدولية، أم أنه كما يقول المثل " ذيل الكلب أعوج".