.
د نعمه العبادي- العراق
” مع تصرم الساعات وإنقضاء الأيام.. تلوح راياتك أيها الثاثر.. حيث ملحمة العشق الإلهي المتفرد.. التي كتبتها بدمائك ودماء أهل بيتك وأنصارك.. فكان زمانك كل الزمان”..
قدم الحسين عليه السلام واهل بيته بركبه الميمون من المدينة سنة ستين للهجرة، حيث وصل مكة في اليوم الثالث من شهر شعبان، وأقام فيها (١٢٠) يوماً، وقد أختار دار العباس بن عبد المطلب للإقامة فيها، وخرج من مكة يوم الثامن من شهر ذي الحجة متوجهاً إلى العراق.
لم تكن للحسين عليه السلام ولا لأبيه ولا لكل أهل البيت قاعدة محبين من المكيين إلا فرداً نادراً، بل كانت مكة وأهلها محملة بالحقد والحنق والغيض على علي وآل علي عليهم السلام، وكان هذا أمراً واضحاً لدى الحسين، فقد لخصت أمه الزهراء عليها علة كراهية قريش لعلي عليه السلام أمام نساء المهاجرين والانصار عندما جئن لعيادتها: ” وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته بحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله”، وقال والده علي في احدى نفثاته وهو يدعو الله تعالى على قريش: ” فأَجزِ قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمي… “، لذا يصبح السؤال ملحاً حول اختياره مكة والمكوث فيها أطول مدة من عمر الثورة، إذ بقي فيها أربعة أشهر على الرغم من كراهة اهلها له؟ وقد أجاب معظم المحققين بأن الاختيار يعود الى موسم الحج الذي تشهده مكة في تلك الاوقات، فجاء ليعرض أمره على وفود الحجيج القادمة من كل أصقاع الارض، ويبلغ الناس حجته، فقد ورد أنه سلام الله عليه عندما نظر جبال مكة من بعيد تلى قوله تعالى : ” ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل”، وهو خطاب نبي الله موسى عليه السلام حينما خرج من مصر إلى مدين.
إن تلك الفترة المهمة من عمر الثورة لجهة زمانها ومكانها، وكونها أشد حالة التصعيد التي وجهت الامور تجاه المنازلة في كربلاء والتي رافقتها احداث مهولة في كل البلاد الاسلامية أبان ملحمة عاشوراء، لم تحصل على تغطية وافية ومفصلة لجميع الوقائع والاحداث على الرغم من أهميتها، وجل ما تأشر منها : (انشداد الناس وحفاوتهم به والمقصود زوار مكة، محاولات ثنيه عن السفر إلى العراق من قبل بعض المبرزين، إرسال سفيره مسلم بن عقيل، ومجموعة من الخطب التي ألقاها قبيل مغادرته) إلا أن ذلك لم يغطي ويجيب على الكثير من الاسئلة التي اثارها هذا التوجه وهذا البقاء وملابسات الاوضاع خلال اربعة اشهر حاسمة في تاريخ الانسانية.
تشير المصادر الى إلتحاق مجموعة من الانصار الذين شاركوا في عاشوراء من خلال وجود الحسين عليه السلام في مكة، وهم: (جنادة بن كعب بن الحرث الانصاري، عبد الرحمن بن عبد رب الانصاري، عمار بن حسان الطائي)، كما ألتحق به من أهل الكوفة في مكة (برير بن خضير الهمداني، عابس بن أبي شبيب الشاكري، شوذب بن عبد الله الهمداني، قيس بن مسهر الصيداوي، عبد الرحمن بن عبد الله الارحبي، الحجاج بن مسروق الجعفي، يزيد بن مغفل الجعفي)، وألتحق به من أهل البصرة في مكة (الحجاج بن بدر التميمي، قعنب بن عمر النمري، يزيد ابن ثبيط العبدي وإبنائه عبد الله وعبيد الله، الأدهم بن امية العبدي، سيف بن مالك العبدي، عامر بن مسلم العبدي ومولاه سالم)، إذ يظهر بوضوح عدم إلتحاق أي من اهل مكة معه رغم سماعهم واعيته وقضيته ومعرفتهم حقيقته.
ان غياب حلقات مهمة من المسيرة الحسينية المباركة لا علاقة له بمشروعية الثورة وأهميتها، وإنما يمثل خسارة كبيرة للمتمثلين النهج الحسيني، والذين هم بحاجة إلى كل حرف وحركة وخطوة وحدث وقع ضمن الثورة الحسينية، الأمر الذي يعيد استحقاق البحث والتحقيق إلى اعلى درجات أهميته.