لقد تغير العالم من حولنا ونحن على حالنا من الظن أنه لا يزال في طريقه للتغير، نترقب ونتابع، نتحفز ونتهيأ أحياناً للانقضاض على الفرص، ولكن لا يحدث شيء من هذا القبيل، إذ نبقى على تكرار السيناريو نفسه، ونبقى على ظننا نفسه أن العالم في طريقه للتغير، فمتى نصحو ومتى نعلم أننا في صحراء الفكر قابعون، بينما انتقل العالم إلى غزو الفضاء، معلناً أنه سيرسي أسس الديمقراطية والتشاركية والحوار بالمريخ والمشتري والزهرة، وسوف يرسي أسس القواعد الإنسانية والحكم الرشيد في كوكب القمر. إنه تصحر العقل العربي الذي لم يرَ سوى تجارة التمور، ولن يرى – على ما يبدو- سوى سباق الإبل والبعير. ولم يتعلم من العلوم التي انبثقت عن حضارة أجداده نحو العالم والتي شعّ منها نور الحياة المتجددة إلا تعدد الزيجات والمفاخرة بالزخرفة الغربية للبناء، وأحدث ماركات السيارات للاستهلاك وليس للتصنيع والتصدير والإبداع. ألم نتعلم نحن العرب، ونحن أمة اقرأ كيف نقرأ تاريخ أعدائنا وأصدقائنا لنعرف حجمهم وحدود قوتهم، حتى نستطيع مجاورتهم بشرف، أو مجاراتهم ومواجهتهم بكرامة، أو حتى نأتمن جوانب شرهم وتطاولهم على أقل تقدير؟! هل نحتاج إلى ألف أو ألفي سنة أخرى لندرك أن مصير الكون في هذا الزمان –بعد الله جلا وعلا- ألعوبة بيد سماسرة المال والدم؟ ألم يتعلم العرب من آلية إفلاس الإكوادور خلال ثلاثة عقود فقط بعد ازدهارها، ومن غواتيمالا كيف تم بها انقلاب الحكم بعد خطوات ناجحة للإصلاح الزراعي باعتباره خطوة صحيحة وناجحة في أسس بناء دولة قوية مستقلة، وكيف تبدلت سياستها وإستراتيجيتها بتبدل نظام الحكم فيها بعد هذا الانقلاب؟ ألم يروا كيف تبدلت سياسة بنما بعد مقتل رئيسها بحادث طائرة أقل ما يقال عليه إنه صدفة مصنوعة بالتخطيط والتنفيذ والتدبير كما في غواتيمالا؟ أولم يدرك العقل العربي إلى الآن أن علم الاقتصاد الذي نرى فيه إشباعاً لحاجات الإنسان، وإدارة رشيدة متزنة لموارده، قد تبدلت أدواته واختلفت أحكامه وموازينه من الصحراء والرمال والصيد إلى تجمعات وشركات عابرة للقارات، تصوغ أهداف إمبراطوريات ودول، وتقرر مصير شعوب وأمم، وتسعى إلى إحلال مفاهيمها على كل ما هو قائم على سطع المعمورة من بشر ودواب وحجر، مما يجعل منها مديرة للاقتصاد العالمي، وفي الوقت نفسه أداة للسيطرة الخفية على العالم، وإن تبدلت مظاهر إخراجها تبعاً للموقع الجغرافي والبنية الهيكلية لمكان نشاطاتها، ولمقدرتها على تسويق أفكارها وسياساتها لشعوبها ومناصريها؟ هل يحتاج العرب إلى كتابة تاريخ جديد حتى يتعلموا كيف استطاع الغرب استنزاف مقدراتهم المالية وسرقة ثرواتهم عبر إدماجهم في تجمعات (التجمع هو مجموعة متقاربة جغرافياً من الشركات المرتبطة والمعاهد المتخصصة المتصلة بها في مجال ما، تربط بينها مشتركات ومكملات) تكون تحت سيطرتهم وإدارتهم ليعملوا من خلالها على سلب العقل العربي لمقدرته الإبداعية، ويرسخوا الفكر التقليدي البعيد عن الواقع العربي في التجارة والصناعة والثقافة والتطوير. لقد استطاع الغرب ومن خلال الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة المطلقة على ثروات الشعوب العربية بطرق مباشرة كما في دول الخليج العربي المسمى، أو بطرق غير مباشرة كما في باقي الدول المسماة دول الوطن العربي، عبر آليات سعى العرب لامتلاكها وتطبيقها بالرجاء والتوسل، دون أدنى تفكير يقود إلى تفادي تباينات تطبيق هذه الأدوات والوسائل بين البيئة العربية والمجتمع الغربي. حيث عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على بناء سياستها الخارجية وفقاً لما ينسجم مع تسويقها لأهدافها على مستوى السياسة الداخلية، من خلال تشابك وتداخل الجانبين السياسي والاقتصادي، ومن خلال تطبيق سياسة الاحتواء، حيث تقوم السياسة الداخلية على تسويق أهداف السياسة الخارجية من مبدأ الدفاع والأمن القومي، وتقوم بتعبئة كل الطاقات المتاحة للشعب الأمريكي تحت هذا الهدف من أجل تنفيذ السياسة التي تخدم أصحاب المصالح والشركات عبر ما يطلق عليه الباحثون اصطلاحاً الشركة الأمريكية (هي المنظمة المشتركة للشركات الأمريكية الكبرى والتي تشكل عصب اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية وقاعدتها الرئيسة لبناء مجتمع الرفاهية وفق المفهوم المجمل الذي يتم تسويقه للشعب الأمريكي)، الأمر الذي قاد إلى دمج الصراع السياسي ضمن حزب واحد في تحقيق المصالح ليعمل تحت ستار واجهتين هما الجمهوري والديمقراطي، ويقوم بتنفيذ ما تمليه عليه اجتماع منظومة الشركات والبنوك والحكومات من أجل ترسيخ فكر الإمبراطورية العالمية، المستندة في ذلك على إستراتيجية متشابكة للذكاء الاقتصادي تجتمع فيها فعاليات المجتمع الأمريكي من المدارس إلى قطاع الأعمال والإعلام عبر ما يطلق عليه اصطلاحاً بين النخب المتثاقفة (الكوربورقراطية). وهو ما تم من خلاله إسقاط واحتلال الدول، سواء أكان ذلك بالإسقاط والاحتلال بشكل مباشر أو بالتبعية والديون، الأمر الذي استمر بنجاح حتى فشل هذا التطبيق فيما يتعلق بتطبيق خريطة الشرق الأوسط الجديد من المنظور الأمريكي، فكان لابد لهم من العودة إلى مقولة نيكسون "عندما تخسر عليك أن تغير من قواعد اللعبة" وهو ما تم فعلاً في أحداث الربيع العربي، إذ لم يعد بالإمكان تسويق السياسة الخارجية للشعب الأمريكي على أنها تقوم على مبدأ الدفاع والأمن القومي بعد كشف زيف الإدعاءات الحكومية فيما يتعلق بالعراق ومعاداة القاعدة وطالبان، وبعد الخسائر الكبيرة التي مني بها الشعب الأمريكي من جراء سياسة بلده في هذه المعارك. خاصة أن الأرضية الإعلامية مهيأة للإستراتيجية الأمريكية الجديدة، فالمفهوم الاستهلاكي قد غزا عقول المثقفين العرب قبل العامة، باعتبار أن الاستهلاك هو واجب حضاري، يقوم على تدعيم ركائز النظام العالمي الجديد الذي يزود العالم بأحدث ما تم اختراعه ليتم استهلاكه في مجتمعاتنا. كما أن الآلة الإعلامية الأمريكية قد هيأت لأرضية جديدة في الحكومة وسيادة القانون، خاصة مع وصول رئيس أسود للبيت الذي يشبهه، بما يخالف برتوكولات الـ (WASP) "أن يكون الرئيس أبيضَ، ومن أصل أنغلوساكسوني وديانته البروتستانتية" والتي تستخدم كعصا للتذكير بأهداف سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بما يخدم المصالح المنشودة للكوربورقراطية الأمريكية. لقد كان تحقيق الأهداف المعلنة للولايات المتحدة في منطقتنا بطريقة مغايرة لما اعتادوا عليه في طريقة تقديمه للشعب الأمريكي، فكانت هذه المرة بطريقة المساعدة من أجل الحريات في المنطقة العربية، أو منطقة الثروات الجيوستراتيجية. لكنهم احتاجوا إلى أن يغيروا كثيراً من قواعد اللعبة، فعندما سقطت حقيبة الأهداف الأمريكية المجتمعة أمام كرامة الشعب السوري وصموده، كان لا بد من تحقيق بعض أهداف هذه الحقيبة، والمتمثلة بتحقيق الوصول إلى الدولة الفاشلة وفي الوقت نفسه تسويق الاستهلاك كخيار وحيد متاح أمام الشعب السوري في المرحلة القادمة إن فشلوا في تحقيق الهدف الأول، عملاً بمقولة ساخرة من مجتمعاتنا العربية وردت في صحيفة الإيكونوميست بأن "الخدمات هي كل ما يباع في تجارة لا يمكن إسقاطها على قدمك" وهو ما تم العمل على تحقيقه من خلال نهب المصانع والثروات وتدمير البنية التحتية وارتكاب المجازر والجرائم ذات اللون الواحد كما يظنون، أو كما خُيّل أو رُسِمَ لهم. وهنا لابد لنا من الاعتراف بأن مشكلتنا نحن العرب لعلها كامنة في أننا أفراد أمة تعيش في عصر الجهل الذي يساعد القوى الخفية في السيطرة على مقدرات الشعوب والدول، فلم ندرك أن من يتحكم بمصير الشعوب الفقيرة والمغيبة في العالم، ويرسم لها سيناريوهات حياتها، كما يتحكم الأركوزاتي بدميتي الأطفال -القديمتين والمحببتين لدى الأجيال التي سبقتنا من الأطفال- (كركوز وعيواظ)، هم عبارة عن سماسرة الدم والمال، الذين ألبسوا البترودولار عباءة الحضارة والرقي. فلم ندرك –إلا بعد فوات الأوان- أن أسلوب الحرب قد تبدلت، وأن أسلوب السيطرة لم تعد بالسيف والرمح، ولم يعد القرطاس والقلم وحده ساح الوغى. ولعل مشكلة اليد الخفية التي تسعى للسيطرة على العالم أيضاً تكمن في وجود قسم كبير من الشعب السوري خارج عباءة الجهل المستتر بعباءة الحضارة والرقي المزعوم، والمسوق له أمريكياً ومن قبل الأعراب، فكان الصمود في الماضي، والعزيمة والإصرار التي سوف تقود إلى البناء الوطني في المستقبل.