ذكرنا فيما سلف كيف أن مصادر التاريخ العربي سواء عند الطبري , أو المسعودي أو غيرهما , و علم الأنساب عند العرب أكد أن (الأشبان) من أبناء يافث بن نوح , و كان موطنهم الأول (أرض الروم) أي بيزنطة , أي الشمال السوري قديماً .
أما تسمية (أشفان) أو (أسفان) فهي , كالعادة , لقب وصفي , ألصق بهم بعد هجرتهم إلى شبه جزيرة إيبيريا و استيطانهم هناك . و هي في الأصل السرياني (أشفان) و لفظت الفاء P كالعادة , و تعني سكان الحافة , النهاية , طرف العالم . و هي في القاموس السرياني من (سفا) و (سفتا) و تعني : شفة , حافة , طرف , شاطئ , ساحل , لغة , لهجة , كلام . و الإبدال شائع بين الشين و السين ما بين الفصحى و السريانية و النون للجمع. و قد جاءت هذه التسمية نتيجة لقناعة السوريين بعد بلوغهم في الانتشار شواطئ الأطلسي بأنهم بلغوا حافة العالم أو نهايته . ( و يتبين من خلال قصيدة بيندار الذي تحدث فيها أربع مرات عن أعمدة هرقل كحدود للعالم . و يتسم بأهمية خاصة مقطع القصيدة النيمية الثالثة الذي يقول فيه بندار بأنه يستحيل بعد الآن التوجه وراء معالم هرقل في البحر الصعب المنال ) (تسيركين) .
إن السوريين الذين كانوا سادة العالم القديم دون منازع لم يتوقفوا عند حدود صقلية و جنوب إيطاليا , بل (يرجح أن تكون سفنهم المتينة كما كانت تعرف , و هي على ما يبدو سفن أوغاريت قد طافت مناطق غربية أبعد . و يؤكد ذلك تمثال من البرونز عثر عليه في البحر عند شواطئ صقلية يشبه طرازه التماثيل التي وجدت في أوغاريت) (تسيركين) .
فقد أسس الفوقيون مرسيليا , و نقلوا غلات (الشمال السوري) في نهر الرون و روافده حتى أرليس و نيمي . و اتخذوا من الأهلين أصدقاء و ازواجاً , و أدخلوا زراعة الزيتون و الكروم هدية منهم إلى فرنسا … و أسس الفوقيون في اتجاه الشرق و على طول الساحل مدن (عين طاب) ANTIAPE و نيقايا (الغالبة , القاهرة) و هي نيس الحديثة . و (منوكيو) (موناكو الحالية) و تعني مكان البياضة , التبييض بالقصدير الذي هو (أنك) .
أما في الغرب فقد وصل السوريون إلى إسبانيا , و أسسوا مدينة (رحوتاي) RHODAE أي الطحانين , بيت الطحان . و (روزا) أي الوردة , و هي بالسريانية من الفعل (روز) و يعني : أورد , أزهر . و مدينة (أمفوريا) و تعني بالسريانية الفاخورة , لأن (أمفورا) تعني القدر من الفخار . و مدينة (ميناكا) مكان التبييض بالقصدير بالقرب من (مالاجا) MALAGA أي مدينة صناعة السمك . و هي في القاموس السرياني من الفعل (ملج) MALAG و يعني : نزع , نتش , أخرج , قطع الرأس , قشر , سلخ , فرك …. أليست هذه كلها عملية صناعة السمك بدءاً من إخراجه من الشبكة إلى تجهيزه للتعليب و حفظه و تصديره !
يقول تسيركين :
(و تتيح لنا أخبار الكتّاب القدامى و الحفريات تصور تحضير مثل تلك المعلبات . كان السمك ينظف , و يقطع الكبير منه على بلاطة حجرية عريضة عند جدار خزان كبير بني عند شاطئ البحر . و كانت النفايات منه ترمى بعدئذ على أرض الخزان المنحنية لتغور في البحر . و كان القسم المفيد منه يلقى في أحواض مجاورة أصغر قياساً (حوالي 3 م × 2 م ) مليئة بالماء المالح . بعد ذلك يوضع السمك النصف المصنع في قدور فخارية مفتوحة لمدة شهرين , و يرشح بعدئذ ليرسل في أوعية صغيرة خاصة أو جرار أو خوابٍ إلى اليونان و إيطاليا) .
و قد أنشأوا مدينة طرطيسوس أو طرطوسوس على اسم (طرطوس) السورية , و استغلوا فيها مناجم الفضة .
و مرة أخرى يخلط المؤرخون في الغرب بين السوريين و فينيقيي صور , الذين لم يبرز لهم أي دور تنافسي في حوض البحر الأبيض المتوسط إلا بعد قيام قرطاجة و نموها و اتساعها , و تحديداً بعد الغزو الفارسي الأخميني لسوريا في القرن السادس قبل الميلاد . و الدليل هو أن هوميروس لم يذكر (صور) و الصوريون مرة واحدة في إلياذته . كما أنشأوا مدينة أخرى اشتهرت بصناعة الفخار و الخزف و التماثيل الخزفية و دعوها (صيرو صلمون) (وجدت فيها خوابٍ مشابهة لتلك التي وجدت في أمفورا , و أباريق عليها رسوم و نقوش , و يمثل أحد هذه النقوش فارساً لاجماً حصانه ) (تسيركين) .
و مدينة سيكسي , و قرطبة , و توسكانو , و أبديرا . و أهم هذه المدن جميعاً كانت (قادس) . و قد أنشئت على جزيرة متطاولة , و كأنما أقلعت لتوها من الساحل الإسباني الجنوبي الغربي ماخرة عباب الأطلسي . و كلمة (قادس) بالعربية السريانية و العربية الفصحى تعني : السفينة الطويلة . لن نتحدث الآن عن الزراعة , و خاصة زراعة الكرمة و الزيتون , التي نقلها السوريون إلى إسبانيا , و لا عن الصناعة بمختلف أنواعها , التي كانت جميعها نسخة عن الطرز المتبعة في سوريا . فتفصيل هذا ليس جزءاً من موضوعنا الآن . لكننا نشير إلى أن (قادس) دفعت مجموعة من خيرة ابنائها السوريين ليتسنموا سدة الحكم في روما الإمبراطورية . نذكر منهم الأنطونيين : أنطونيو الأول و الثاني و الثالث , و مارك أوريل , قبل تسلم الأباطرة السوريين من سوريا الأم نفسها , مثل الإمبراطورة جوليا دومنا , و ابنها كركلا , و حفيدي أختها : هيلا جبال , و اسكندر سفيرو , و أخيراً فيليب العربي .
و تجدر الإشارة أخيراً إلى أن السوريين أقاموا عدة مستوطنات في (مالطا) التي تعني الملجأ , و على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط كان أهمها (عتيقا) في وسط سهول شمال تونس التي يعتبر موقعها من أجود الأراضي الصالحة للزراعة . فنقلوا إليها زراعة الكرمة و الزيتون بشكل خاص , حتى اشتهرت بخمورها في كل أرجاء المتوسط . و من معاني (عتيقا) في القاموس السرياني : المعتقة , الخمر المعتقة . و قد أوردت الكتابات التاريخية بأن إنشاء (أتيكا) في تونس يسبق نشأة قرطاجة بــ 782 عاماً . و مدينة (ميلا) و تعني المنارة , و هي الإسكندرية . كما أنشأوا في قلب الدلتا مستوطنة عند الفرع الكنوفي CNOPE و دعوها (نوكراتي) و تعني بالسريانية المغترب , دار الهجرة , المهجر , و هي من الفعل (نكر) و قد سبق شرحها .
إن الحدث التاريخي هو فعل عقلي , و بالتالي هو حدث منطقي . و إن أي تفسير للتاريخ بعيد عن المنطق يفضي به حتماً إلى وهدة السقوط .
إن مثل هذا الانتشار الواسع لم تكن لتقوم به عشيرة كاليونان , أو مجموعة عشائر , أو مدينة مثل صور أو مجموعة من المدن . إنه انتشار مدعم من الخلف بشعب كبير عظيم , و بدولة عظمى . و لم تكن مواقع إيونيا و إيوليا في الشمال السوري إلا منصة الانطلاق لذلك الانتشار . و إن هذا لا ينفي أبداً كون بعض اليونان و الإيوليين جزءاً من الانتشار , لكونهم جزءاً من ذلك الشعب العظيم .